ليزا ألارديس
ترجمة: رمزي ناري
بطل الرواية عنيفٌ، شهوانيّ، ويفتقر تمامًا إلى القدرة على التعبير عن مشاعره، حتى إنه يكرّر كلمة «حسنًا» قرابة خمسمئة مرة. فكيف نجح المؤلّف في تحويل حكايته إلى مأساة أدبية رفيعة؟
في صباح اليوم التالي لإعلان جائزة البوكر لهذا العام، بدا ديفيد سالاي، الفائز بالجائزة، رجلًا ودودًا للغاية ورقيق الطبع على نحو يكاد يناقض تمامًا الشخصية التي ابتكرها في روايته؛ إحدى أكثر الشخصيات التباسًا أخلاقيًا في الرواية المعاصرة. روايته السادسة «لَحم»، التي تتناول صعود وسقوط مهاجرٍ مجريٍّ في المملكة المتحدة، لا تُشبه أيَّ شيءٍ قد قرأته من قبل.
يُشار إلى سالاي غالبًا بأنه «مجري–بريطاني»، غير أن هذا الوصف أثار انزعاج الكنديين، كما يقول ضاحكًا؛ فوالدته كندية وقد وُلد هناك، حيث انتقل والده المجري إلى كندا قبل سنوات قليلة. «يمكن القول إنني كنديٌّ أكثر من كوني مجريًا». بلغ الحادية والخمسين، ونشأ في إنجلترا وتخرّج في جامعة أكسفورد، ثم عاش في المجر خمسة عشر عامًا. وممّا يزيد الصورة تعقيدًا أنه قادمٌ من فيينا، حيث يعيش الآن مع زوجته وابنه الصغير جوناثان.
كان النقّاد يصفونه لسنوات بأنه «كاتب الكتّاب». ففي عام 2013 اختارته مجلة «غرانتا» Granta ضمن أفضل الروائيين البريطانيين الشباب. وكان ثمّة شعورٌ عامّ بأنه يستحق أن يُعرَف أكثر. وفي الأشهر الاثني عشر الماضية رزق بطفل، وفاز بالبوكر. يقول وهو يحاول أن يُنعش صوته المتعب من قلّة النوم وكثرة المقابلات: «إنه عامٌ لن أنساه».
لم تكن الليلة الماضية تجربته الأولى في حفل البوكر المتوتر؛ ففي عام 2016 بلغ القائمة القصيرة عن كتابه كلُّ ما هو الإنسان All That Man Is، وهو مجموعة مترابطة من تسع قصص عن رجالٍ من مختلف الأعمار من جميع أنحاء أوروبا، وقد أثار جدلًا حول ما إذا كان يُعَدّ رواية أم لا. «كانت ليلةً شديدةَ التوتر»، كما يقول. أمّا هذه المرّة، فقرّر أن «يُنوّم نفسه مغناطيسيًا» ليؤمن بأنه لم يفز. «وربما نجحتُ في ذلك أكثر ممّا ينبغي»، يضيف ضاحكًا. «كنتُ هادئًا على نحوٍ مريب، ثم حين حدث الأمر فعلًا أصبتُ بصدمةٍ خفيفة».كانت «لَحم» ثمرةَ فشلِ روايةٍ عمل عليها لأربع سنوات. كان جزءٌ من المشكلة هو الضغط الناتج عن الاهتمام الكبير بكتابه السابق، وجزءٌ آخر أنّ «الفكرة المركزية كانت خاطئة». كتب مئة ألف كلمة قبل أن يتخلّى عنها أخيرًا. «شعرتُ بارتياحٍ هائل، لكن مع قلقٍ أيضًا؛ إذ كان عليّ أن أبدأ مشروعًا جديدًا. ولو تخليتُ عن كتابين متتاليين لكان ذلك مقلقًا للغاية».
كان يريد كتابة رواية تمتدّ بين إنجلترا والمجر، تعبيرًا عن إحساسه بأنه «عالِقٌ عاطفيًا بين البلدين». وكان يريد كذلك التعمّق في «جسديّة الوجود»، كما يقول. «هذه الفكرة موجودة في كل قصة، لكنها نادرًا ما تكون في مركز الاهتمام».
فتح ملفًّا جديدًا في الوورد Word وسمّاه مبدئيًا «لَحم» Flesh ؛ عنوانًا بدا غيرَ أدبيٍّ على حدّ تعبيره، وقد أثار قلق مُحرّره. لكنهم اتفقوا جميعًا في النهاية على أنه الأنسب لجوّ الرواية ومركز انشغالها: الجسد.
الفصل الافتتاحي، الذي لا يُنسى، كان أول ما كتب، وكاد يكون قصة قصيرة. يعيش إِشْتِفان، الفتى ابن الخامسة عشرة، مع أمّه العزباء في بلدةٍ مجريةٍ جديدة. تغويه جارة في الثانية والأربعين، وتنتهي مشادة مع زوجها بكارثة. «كنتُ سأقرأ بالتأكيد الفصل الثاني»، يقول سالاي. «حينها فكّرتُ: كيف أتابع الحكاية؟» وقد تابعها فعلًا… وبسرعة.
يمضي إِشْتِفان فترةً في مركز احتجازٍ للأحداث، ثم يخدم في الجيش المجري خلال الحرب على العراق – وكل ذلك يحدث خارج إطار السرد المباشر. نلقاه مجددًا وهو يعمل حارسًا لبوابة نادٍ ليليٍّ في لندن. ثم يحصل على عملٍ سائقًا لرجلٍ ثريٍّ إلى حدّ السخف، ويصبح هو نفسه ثريًا إلى حدّ السخف. وما تقدّم يكفي؛ فالتفاصيل الأخرى ستُفصح الكثير. تحدث لإِشْتِفان أمورٌ كثيرة، ومعظمها سيّئ للغاية. يقول سالاي: «لم أكن أريد أن أكون جبانًا أو أن أتجنّب الأمور القاسية أو أتركها خارج النص. الرواية تبدو معاصرة تمامًا من الخارج، لكنها في العمق صيغت بمنطق تراجيديا يونانية؛ بطلها يمرّ بعذابات هائلة وصولًا إلى لحظة تطهّره». والقارئ يمرّ بالعذاب معه.
موضوع سالاي، الذي صقله عبر ستّ روايات وخمسة عشر عامًا، هو الرجولة: ما معنى أن تكون رجلًا اليوم، بما يرافق ذلك حتمًا من عنفٍ وجنسٍ ومال. وفي عام 2025، ليست هذه موضوعاتٍ مضمونةً للحصول على البوكر. كان الكتّاب يسعون في السابق إلى أن يُوصف أحدهم بأنه «مارتن آميس الجديد»، بينما يُعَدّ اليوم أمرًا يثير الحرج. وفي خطابه ليلة فوزه بالجائزة، قال سالاي إنه كان مدركًا أنه يكتب رواية محفوفة بالمخاطر. «أحد المخاطر كان الكتابة عن الجنس من منظورٍ ذكوريٍّ صِرف، وبأكبر قدر ممكن من الصدق». نرى إِشْتِفان يدخّن ويمارس الجنس، وأحيانًا يأكل. «من الصعب جدًا، وهذا معروف، الكتابةُ عن الجنس»، يقول المؤلف. «حاولتُ أن أكتبه بروحٍ واقعية، دون تزويق». فالغضب والجنس، كما يوضح، «تجارب غير لفظية» في معظمها – وهذا ما يجعل مهمة الروائي في التعامل معها بالكلمات محضَ مجاهدة، «ما لم يترك الصفحة بيضاء».
إِشْتِفان نفسه يكاد يكون صفحةً بيضاء. لا نعرف شكله، رغم أنّ النساء يستسلمن له بسهولةٍ مدهشة – وهذا «لعنتُه». لا نعرف ما يفكّر فيه، ولا لماذا يفعل ما يفعل، ويبدو أنه هو نفسه لا يعرف. إنه رجلٌ قليل الكلام. لم تُستخدم كلمة «حسنًا» بهذا الإلحاح، ولا بهذا المعنى، في أي عملٍ روائي من قبل (نحو خمسمئة مرة، كما يُشاع). يقول سالاي: «كان هذا جزءًا مهمًا من بناء الشخصية. لم أردْ شخصيةً تشرح نفسها للقارئ، سواء بصدقٍ أو بخداع». وهكذا نجح في بناء عالمٍ شديد الخارجية، واقعيٍّ إلى حدّ القسوة، يجمع بين المأساة والكوميديا في تفاهته اليومية.
خوفًا من تصنيف الرواية على أنها مجرد «أطروحة عن الرجال»، عمد سالاي إلى حذف أغلب الإشارات المباشرة إلى الرجولة. يقول: «آمل أن تكون الرواية أوسع من ذلك بكثير». ويضيف: «آمل أن تكون مؤثرةً بشدّة – وهذا لا يتحقق إلا إذا شعر القارئ بواقعيتها». وقد حقق ذلك فعلًا. إنها براعةٌ فنية أن يجعلنا نهتم بشخصيةٍ غامضة إلى درجة أننا، في لحظةٍ حاسمةٍ من لحظاتها الأخلاقية، لا نعرف كيف ستتصرف.
وبالرغم من انشغال الرواية بالجسد، إلّا أنّ وجود إِشْتِفان متجذّرٌ في زمنٍ محدد. تمتدُّ أحداثها تقريبًا على مدى عمر المؤلف، وتشير إلى وقائع خارجية كالحرب على العراق، وهجرة الأوروبيين الشرقيين إلى الغرب، وصولًا إلى الجائحة، لتوضح كيف تتشكل حياتنا بقوى سياسية واجتماعية خارج نطاق سيطرتنا. «انهيار الشيوعية، وانضمام المجر إلى الاتحاد الأوروبي، كان لهما تأثيرٌ هائل على حياة المجريين»، يقول. «أمّا بريكست فسيُحدِث تغييراتٍ عميقة في نفسية المملكة المتحدة».
يفخر سالاي بوصف نفسه بأنه «روائيٌّ أوروبي». قضى معظم حياته الكتابية في المجر، ويعيش الآن في النمسا، ويصف نفسه بأنه «ناسكٌ أدبي». لا يُجيد الألمانية جيدًا، كما يقول، وليس جزءًا من أي وسطٍ ثقافي هناك. وفي مقابلاتٍ سابقة يمكن تلمّس ضيقه من تشابه معظم الروايات المعاصرة. وهو بالتأكيد لا يحب الشكل الروائي التقليدي. «تلك الرواية الروسية التي تبدأ من أجداد البطل وتستغرق مئتي صفحة للوصول إلى لحظة ولادته – ليست نوعي المفضل»، يعترف. «أفضل الروايات المكثّفة، التي لا تُخبرك بكل شيء».
ليس مفاجئًا أن يكون إرنست همنغواي وجون أبدايك من كُتّابه المفضلين في شبابه. «فرجينيا وولف أثّرت فيّ أيضًا»، يقول. «وأقرأ رواياتٍ لنساء بقدر ما أقرأ لرجال». وهو الآن في منتصف كتابة روايته التالية، التي «تتضمّن جزئيًا منظورًا نسائيًا»، كما يقول ضاحكًا.
كان يخطط أن يقضي هذا اليوم في لندن مع زوجته، لكنها اضطرت للعودة إلى فيينا مع طفلهما، بينما يبقى هو للحديث عن الرجولة. إنها المرّة الأولى التي يتركان فيها ابنهما مع آخرين (خالاته). «ربما كان هذا الوقت الأنسب»، يقول سالاي. وفوزه بالبوكر هو بالتأكيد مبرّر ممتاز للاستعانة بأفراد العائلة في رعاية الطفل. «لم أكن أعرف كيف سيتلقى الناس الكتاب»، يقول. «وأنا فخور بأنه وجد صدًى لدى هذا العدد الكبير من القرّاء».
الترجمة عن صحيفة «الغارديان».










