بغداد / المدى
يتناول فخري كريم، رئيس مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون، في القسم الثالث والاخير من مقابلته مع قناة «شمس» الفضائية، موقع إقليم كردستان داخل المعادلة العراقية المتحوّلة، وطبيعة التحالفات، وأسباب الإخفاقات المتكررة في التفاوض مع بغداد، مشدداً على ضرورة اختيار مفاوضين «خاليين من المصالح الشخصية» وتمثيل يعبّر عن الإرادة الكردية الحقيقية.
ويمتد الحديث إلى محطات مفصلية في تاريخ العلاقة بين الحزبين الكرديين، وتأثير غياب الرئيس الراحل جلال طالباني على توازن الساحة السياسية، إضافة إلى رؤية كريم لدور مسعود برزاني كزعيم ذي حضور يتجاوز الإقليم، ومسؤولياته في إدارة الانقسام الداخلي. كما يتطرّق الحوار إلى أزمة تمثيل الكرد في العالم العربي وغياب نافذة فاعلة تعكس حضورهم الثقافي والسياسي.
ويختتم كريم حديثه بكشف جانب شخصي نادر، يتجاوز فيه تجارب الاغتيال والسجن، ليتوقّف عند «النكبة الأخلاقية» التي يعيشها العراقيون، مؤكداً أن مشاهد الخراب التي تطال الشعب الذي وُعِد بالسلام والعدالة هي وحدها ما يمكن أن «يكسره حقاً»، كما يصف.
القسم الثالث
قوى سياسية لا تمثل المكونات
وجّه المحاوِر سؤالاً إلى الأستاذ فخري كريم، قائلاً: إذا كان هؤلاء الذين تحدثتَ عنهم «لا يمثلون الشيعة»، وهؤلاء الآخرون «لا يمثلون السنّة»، فمن هم إذن ممثلو الشيعة والسنّة الحقيقيون في العراق؟ ومن يعكس إرادة العراقيين فعلاً؟
أجاب كريم بأن «المكوّن الحقيقي»، سواء كان شيعياً أو سنياً أو كردياً، هو «ذلك الشعب الذي بلغ مرحلة من اليأس» لم يعد فيها يعبأ بشيء. وذكّر بأن نسبة المقاطعة في الانتخابات السابقة بلغت نحو 80%، وأن النسبة في الانتخابات الأخيرة لم تختلف كثيراً، رغم محاولة التلاعب بالأرقام وإظهار نسبة المشاركة وكأنها مرتفعة.
وأوضح أن المفوضية العليا للانتخابات أعلنت أن عدد مَن يحق لهم التصويت هو حوالي 20 مليون ناخب فقط، رغم أن العدد الحقيقي - بحسب تعداد السكان - يبلغ نحو 30 مليون ناخب. وقال إن المفوضية «حذفت 8 ملايين» من قوائم التصويت بحجة «التسجيل البايومتري»، أي أن هؤلاء لم يصدروا بطاقاتهم ولم يراجعوا المراكز الإدارية، لأنهم ببساطة «رفضوا المشاركة». وأضاف: «يا رجل… هؤلاء جلسوا في بيوتهم. رفضوا حتى استلام البطاقة»، مؤكداً أن هذا بحد ذاته «أكبر تعبير عن فقدان الثقة بالعملية السياسية».
وتابع قائلاً إن 12 مليون ناخب فقط شاركوا فعلياً من جميع المكوّنات، متسائلاً: «كيف تُفسَّر الشرعية السياسية على هذا الأساس؟».
وأشار كريم إلى أن هذه الأعداد الضئيلة من المقترعين تُقسَّم إلى مقاعد «شيعية وسنية وكردية»، لكن الواقع هو أن «الناس وصلت إلى درجة من الإحباط واليأس» جعلتهم يبتعدون كلياً عن العملية السياسية. وأضاف: «هذا لا يُنتج قناعة، ولا يغيّر واقعاً».
وواصل كريم حديثه بالإشارة إلى المقارنة التي يطرحها البعض مع مرحلة صدام حسين، قائلاً إن «98% من الناس كانوا يخرجون للانتخابات» في تلك الحقبة، ويرفعون شعار «بالروح بالدم نفديك يا صدام». ثم روى حادثة بعد سقوط النظام حين «اختلطت الأوراق»، ولم يعرف البعض ماذا يقولون، فهتفوا «بالروح بالدم نفديك يا هلكان»، لأنهم لم يعرفوا من يخاطبون. وقال إن هذا يشبه اليوم «بلداناً ليست فيها انتخابات حقيقية»، لكن الملايين تخرج «ضمن استعراض» لا علاقة له بالديمقراطية.
وعاد ليؤكد أن ما يجري في العراق «ليس ديمقراطية»، وأن هذه الانتخابات «لن تكون شرعية» طالما بقي السلاح منتشراً خارج سيطرة الدولة.
وأضاف بنبرة حاسمة: «من الوهم الكبير أن يعتقد أحد أن أي إصلاح أو تغيير يمكن أن يحدث مع وجود المسلحين بكل أصنافهم وبكل تسمياتهم». وأوضح أن الدولة لا يمكن أن تُبنى، ولا أن تكتمل مؤسساتها، بوجود ميليشيات وسلاح منفلت، وأن «الفساد لا يمكن أن يُقوَّض من دون دولة، والدولة لا تُبنى من دون حصر السلاح بيد مؤسستها الرسمية».
وتوقف كريم عند مسألة خطيرة، قائلاً إن «لا رجال دولة» قادرين اليوم على تحمل مسؤولية هذا الواقع. ثم ذكّر بأن الدستور حظر السلاح خارج إطار الدولة لسبب واضح: أن يمارس المواطن حقه بحرية، من دون خوف أو ترهيب.
وأشار إلى أن التصويت الخاص، الذي يُفترض أن يكون استثناءً، تحول خلال السنوات الماضية إلى أداة ضغط وتمدد، إذ «مئات الآلاف» جرى تعيينهم في الأجهزة الأمنية وفي مؤسسات الدولة، ما أدى إلى تضخم الأعداد التي تصوّت على أساس الانتماء الوظيفي أو الولاء الحزبي لا على أساس الإرادة الحرة.
على الإقليم اختيار مفاوضين بلا مصالح
انتقل المحاوِر إلى ملف حساس يتعلق بالإقليم، سائلاً فخري كريم عن موقع كردستان اليوم داخل المشهد السياسي العراقي بعد هذه الانتخابات، التي أصبحت «أمراً واقعاً». وأضاف أن من فازوا اليوم سيكونون ممثلي الشعب العراقي، سنة وشيعة وكرداً، بينما يبدو الجو داخل الإقليم مختلفاً تماماً، إذ منح الناس ثقة واسعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، بأكثر من مليون صوت، ما أعاد رسم توازنات داخلية واضحة.
وسأل المحاوِر: لماذا يُنظر اليوم إلى تحالفات الإقليم السابقة - مع المالكي، أو مع السوداني، أو مع أطراف أخرى - وكأنها كانت «أخطاء» سياسية؟ وما هي خيارات الإقليم الآن؟ ومع من يمكن أن يتحالف في هذا الواقع المعقد؟
أجاب كريم بأن الإقليم «ملزم بالتعامل مع الواقع»، وأنه لا يملك ترف تجاهله أو القفز عليه. وقال إن على الإقليم، وعلى الرئيس مسعود بارزاني تحديداً، أن يأخذا في الاعتبار «توازنات القوى الموجودة»، وأن يتحركا وفقها لأن «لا حول ولا قوة للإقليم» إلا باعتماد قراءة دقيقة للمعادلة العراقية.
وأضاف أن أول وأهم خطوة هي أن «يختار الرئيس مسعود بارزاني وفداً تفاوضياً خالياً من المصالح الشخصية»، وفداً لا يبحث عن وزارة أو منصب أو مكسب فردي، بل يتحرك «فقط» وفق مصلحة الدفاع عن حقوق الشعب الكردي. وأشار إلى أن هذا الشرط «لم يتحقق في مرات عديدة» خلال السنوات الماضية، إذ شارك في بغداد ممثلون «لا يعبرون عن الحالة الصحية في الإقليم»، على حد قوله.
هنا قاطعه المحاوِر قائلاً إن هذا أمر «غير منطقي»، لأن عقليات الحكومات في العالم كله تفترض أن المفاوض لا علاقة له إلا بمصلحة من يمثلهم، فردّ كريم قائلاً إن المشكلة في العراق تكمن في أن بعض المفاوضين «يذهبون وعيونهم على الوزارة أو الرئاسة»، ما يجعلهم يطرحون مصالح شخصية على حساب الملف الكردي.
ثم دخل كريم في تفاصيل تاريخية مهمة، مشيراً إلى أنه كان «الطرف المفاوض» الذي حمل الملف بين مسعود بارزاني وجلال طالباني، قبل وبعد سقوط النظام. وقال إنه كان يتنقل بين الرجلين لفترات طويلة للبحث في مسألة «من يكون رئيس الجمهورية، ومن يكون رئيس الإقليم».
وكشف أن مسعود بارزاني «كان يرفض أي منصب»، وأن جلال طالباني كان يقول له في بعض الجلسات: «ماذا تريدني أن أفعل رئيساً بلا صلاحيات؟». وروى أن صديقه عدنان المفتي - الذي حضر بعض تلك الاجتماعات - كان شاهداً على هذا النقاش، وأنه في آخر لقاء قال لطالباني: «لأول مرة يظهر في تاريخ العراق رئيس كردي. العراق ليس الصومال، ومع احترامي للصومال، مجرد أن تكون رئيساً فهذا أمر كافٍ بحد ذاته».
وأشار كريم إلى أن عملية الاختيار كانت تتم آنذاك بين «قامتين تاريخيتين»، هما مسعود بارزاني وجلال طالباني، لكن الأمور لاحقاً انحرفت، وأصبح منصب رئاسة الجمهورية يتداول بين شخصيات قال إنها «لا تعبر عن نبض الشعب الكردي». وأضاف أنه يوجد في كردستان «مئات الشخصيات البارزة والكفوءة والمثقفة والمناضلة والنزيهة»، متسائلاً: «لماذا يجب أن يأتي الرئيس من الاتحاد أو من الحزب الديمقراطي فقط؟ من الذي قال إنهم وحدهم يمثلون الشعب؟».
وتابع كريم قائلاً إن الإقليم يحتاج إلى بناء تحالفاته على «توجهات ومبادئ واضحة»، تحترم إرادة جميع الأطراف داخل التحالف الكردستاني، وتتحرك وفق اتفاقات تُحترم وتُنفذ كما وُقعت، لا أن تُستخدم كأوراق عابرة. وأكد أن المطلوب هو «ألا تتكرر الأخطاء منذ البداية حتى الآن»، سواء في التمثيل أو الوفد المفاوض أو طبيعة الاتفاقات.
القانون الانتخابي مجحف بحق الإقليم
انتقل المحاور في سؤال جديد إلى جوهر الخلل الذي يراه كثيرون في العلاقة بين الإقليم وبغداد، وتحديداً في القانون الانتخابي الحالي. وقال إن هذا القانون، بمقارنة حسابية بسيطة، يَظهر وكأنه «يظلم الكرد بشكل مباشر»، موضحاً أنه في بغداد يمكن الفوز بمقعد نيابي مقابل نحو 35 ألف صوت، بينما يحتاج المرشح في أربيل إلى 70 ألف صوت للحصول على المقعد نفسه. وأكّد أن قيمة الصوت الكردي أصبحت، وفق القانون، «نصف قيمة الصوت العربي»، مستشهداً بأن الأصوات التي يحصل عليها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تمنحه 47 أو 48 مقعداً، بينما يحصل الحزب الديمقراطي الكردستاني، بالأصوات نفسها، على 23 أو 24 مقعداً فقط. وختم بقوله: «من البداية هناك عدم عدالة».
قاطع فخري كريم، قائلاً إنه يريد الحديث عن «الواقع الراهن الملموس»، وعن «توازنات القوى» التي أنتجتها العملية السياسية الحاليّة بكل ما فيها من خروقات. وأوضح أن ما يجري اليوم هو نتيجة مباشرة لتجاوزات ضربت «الأسس التي قامت عليها العملية السياسية»، مشيراً إلى أن هذه العملية كان يجب - وفق المنطق السياسي - أن تُفكك وتسقط عندما خرجت عن قواعدها، «لكن ما حصل هو العكس تماماً».
وأضاف أن «الانفراد بالسلطة» أصبح السمة الطاغية، وأن من يمسكون بزمام الحكم يعيدون بناء «بؤر داخل كل جهاز من أجهزة الدولة» بطريقة تجعل هذه الأجهزة تعكس مصالحهم وحدهم، وكأنهم «الممثلون الشرعيون الوحيدون» للبلاد.
واستشهد كريم بواقعة حديثة قال فيها أحد قادة الفصائل المسلحة - قبل ثلاثة أو خمسة أيام فقط - في تجمع انتخابي كلاماً صادماً: «نحن الذين لنا الحق في أن نولي العراق من نريد، ومن لا يعجبه، يضرب رأسه بالحائط. وإذا اضطررنا، بسلاحنا سنفرض عليه ما نريد». وأضاف كريم: «هذا قيل في العلن، أمام الناس، وفي تجمع انتخابي… فأين القانون؟ أين القضاء؟ وكيف يُسمح بظهور كهذا على التلفزيون؟».
وشدد على أنه يتحدث عن «الملموس»، عن الوقائع الجارية التي لا يمكن تجاهلها، وأنه لابد من إدارة العملية السياسية «وفق التجربة»، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، لأن الخيارات كثيرة وليست محصورة بشخصيات محددة.
وتابع قائلاً إن ما يجري اليوم يولد شعور عميق بالحزن، وإنه يشعر بـ «مرارة شديدة» على غياب الرئيس الراحل جلال طالباني. وأضاف أن رحيله «ترك فراغاً كبيراً جداً»، ليس على مستوى الإقليم فقط، بل على مستوى العراق كله. وأكد أن غيابه أدى إلى «مضاعفات مسيئة للشعب الكردي»، وللحزب الذي بناه طالباني، وللتوجهات السياسية التي اعتمدها طوال مسيرته.
غياب مام جلال هزّ توازن الإقليم
سأل المحاور فخري كريم قائلاً: «ألا تشعر أنك تظلم الرئيس مسعود برزاني عندما تتحدث عن الوحدة وكأنها مسؤولية مشتركة لم تتحقق، من دون أن تأخذ في الحسبان غياب مام جلال وتأثيره؟».
ابتسم كريم وأجاب بأنه «لم يفهم السؤال جيداً»، فأعاد المحاوِر توضيحه، قائلاً إن المقصود هو أن ما تحدثت به يوحي وكأن مسعود برزاني لم يقم بما يكفي لإنجاز الوحدة، بينما الحقيقة - كما يرى المحاوِر - هي أن «الفراغ الذي تركه مام جلال أثّر على مسيرة الاتحاد الوطني»، وأن كثيراً مما وصل إليه الوضع الحالي يعود إلى هذا الغياب.
قال كريم لنه لن يتدخل في مسيرة الاتحاد الوطني الكردستاني. فقاطعه المحاوِر: «كيف لا تتدخل؟ أنت كنت أحد الأركان!». فرد كريم بهدوء: «أنا قلت إن غياب مام جلال انعكس سلباً وبشكل خطير على الوضع في كردستان، وبلا أدنى شك على الاتحاد الوطني أيضاً». وأضاف أن طالباني كان «المؤسس والركن الثاني» في القيادة الكردية، ولا يمكن تشبيهه «بأي شخص آخر»، وأن غيابه «ترك فراغاً حقيقياً» من الطبيعي أن يواجهه الاتحاد، لكن طريقة معالجته «مسؤولية الحزب نفسه، وليس مسؤولية أحد خارجه». وأوضح أنه من حقه التأييد أو النقد، لكن «القرار بيد الحزب».
ثم انتقل كريم إلى تفصيل مهم، قائلاً إن الاتحاد الوطني إذا بنى علاقته في كردستان على «الماضي والثارات»، وعلى «استخدام الكراهية السياسية» فلن يمثل مسيرة مام جلال، لأن طالباني كانت لديه رؤية مختلفة تماماً.
وأراد كريم أن يسجل «شهادة مهمة» قال إنه يمتلك عليها شهوداً. فقد أخبره مام جلال - مرات عديدة- بأنه نادم ندماً شديداً على ما جرى في الستينات، حين انقسم الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأنه تأثر آنذاك ببعض ما قيل له، وكان ذلك خطأً لم يكن ينبغي أن يرتكبه. وقال كريم إن طالباني كان يتمنى أن «تُصفّى آثار الصراع الدموي» بين الحزبين، صراع سماه «حرب الأشقاء».
وأضاف أن طالباني كان يعتبر أن «القائمة الكردية» لا يمكن أن تقوم لها قائمة إذا لم يتوحد الأكراد، وأنه قال له أكثر من مرة: «يجب علينا كأكراد أن نردم الهوة بين الحزبين وبين كل الأطراف الأخرى، لأن مستقبل كردستان لا يقوم إلا بوحدة الإرادة».
واستذكر كريم قصة قريبة من الذاكرة، عن خلاف سياسي حاد بين طالباني ونوشيروان مصطفى. نشب الخلاف «بلهجة عالية جداً»، حين طلب نوشيروان مساعدة مالية، تقدر بنحو 15 مليون دولار، قدمها له مام جلال «من دون تردد»، وكان نوشيروان يشكره على ذلك لاحقاً. ويضيف كريم: «كان يستطيع بكل سهولة أن يرسل البيشمركة ويعتقله… لكنه اختار أن يساعده».
ثم روى حادثة أخرى حين اشتد الصراع بين الحزبين، وأعيد فتح خطوط التواصل. ودار نقاش حول «من يذهب إلى الآخر». ويقول كريم: «أنا شاهد على هذا». فقد قال طالباني له: «تخيّل أنهم يسألونني كيف أذهب إلى مسعود! نحن نذهب إلى أشخاص كانوا أمس أعداءنا وما يسوون أربع فلوس… وأنا أذهب إلى مسعود، ابن ملك كردستان». ثم اعتذر كريم عن استخدام هذا التعبير قائلاً إنه ينقله كما سمعه، مؤكداً أن طالباني كان يتحدث دائماً باحترام عن بارزاني وبيته.
وأضاف أن مام جلال «لم يكن يفكر» في هذه الاعتبارات البروتوكولية. وعندما عاتبه كريم يوماً على استقباله الضيوف حتى «على باب القصر»، قال له طالباني مازحاً: «يعني تريد تميز نفسك؟ أنت شيوعي وأنا مو شيوعي؟». وكان همه الأول، كما يكرر كريم، «كيف يوحّد الكرد ويقرب بين الحزبين».
وأشار أيضاً إلى أن طالباني «ألحّ» على أن يدخل الحزبان في قائمة انتخابية واحدة، وأن هذا الاقتراح واجه معارضة كبيرة من داخل الاتحاد الوطني، ومن داخل الحزب الديمقراطي أيضاً، لأنهم كانوا يخشون أن يؤدي ذلك إلى «إرباك توازن القوى».
على بغداد ان تستفيد من زعامة مسعود بارزاني
تابع المحاوِر سؤاله قائلاً إن كل ما سبق يدفعه للاستنتاج بأن الرئيس مسعود برزاني يبدو وكأنه «يمشي الطريق وحيداً»، متسائلاً كيف يمكن لأي زعيم أن يحقق أهدافاً كالوحدة والتعايش السلمي إذا لم يجد استجابة مقابلة من الأطراف الأخرى. وأضاف أن مسعود برزاني، في كل لقاء معه، سواء جلسة خاصة أو حوار إعلامي، لا يتحدث إلا عن أمرين أساسيين: الوحدة والتعايش. ومع ذلك، فإن الواقع يُظهره وكأنه «يغرد وحيداً». فسأل: «كيف يمكن له أن يحقق هذه الأهداف إذا كان وحده في الساحة؟».
أجاب فخري كريم بنبرة واضحة: «هو لا يغرد وحده.. ثم إن مسعود ليس رجلاً عادياً… هو زعيم. والزعيم عليه ضريبة أن يتحمّل». وأضاف أن الزعامة، عندما ترتبط بمهمة قومية كبرى، تفرض على صاحبها أن يكون قادراً على تقديم تنازلات لا تمس المبادئ ولا القيم، بل تكون جزءاً من مسؤولية القيادة. وتابع قائلاً: «التنازل الذي لا يمس المبادئ لا ينقص من قامة الزعيم. على العكس، يعززها. هذا دفاع عن تاريخه، وعن الثورة الكردية، وبمعنى معيّن دفاع عنا نحن العراقيين أيضاً».
وأكد كريم أن مسعود برزاني قادر على لعب هذا الدور، وأن «كل خطوة يتقدم بها إلى الأمام تجعله أقرب إلى الشعب الكردي». وشرح أن احتضان برزاني للاتحاد الوطني، «بغض النظر عن أي مظهر مُخِل أو غير مريح»، هو في صالح الشعب الكردي كله. واعتبر أن اهتمامه حتى بـ«التكوينات الصغيرة» داخل المشهد السياسي الكردي يُعلي من قيمته كزعيم، لأن قوة هذه المكوّنات الصغيرة هي قوة للمجتمع الكردي، وبالتالي قوة لمسعود برزاني.
«هو ليس وحده»، قال كريم. «هو مع كل الأكراد الذين يشعرون بالمحنة الحقيقية بسبب الانقسام والمظاهر المشوّهة، التي هي من نتائج هذا الانقسام».
وتابع المحاوِر بسؤالين متتاليين: أولاً، عندما يتحدث كريم عن ضرورة أن يقدّم الزعيم تنازلات، هل يعني أنه يتهم مسعود برزاني بالعِناد كما يقول البعض؟ وثانياً، هل يرى في عناد برزاني صفة إيجابية أم سلبية؟
ضحك كريم قليلاً قبل أن يوضح: «لا، أنا لا أتهمه بالعناد. أنا أقول شيئاً آخر. أقول إن الزعيم حين تتطلب منه المهمة أن يقدم تنازلات غير مبدئية، فهذا لا يقلل من قيمته ولا من حجمه. ومع ذلك… نعم، هو يعاند. وأنا بصراحة أحب في الرئيس مسعود هذا العناد». وأضاف: «العناد ليس عيباً. العناد قد يكون ميزة عندما يكون هدفه حماية الحقوق والمبادئ».
ثم توسّع في شرح طباع مسعود برزاني، قائلاً إنه معروف بين المقربين منه بأنه لا يتخذ قراراً سريعاً، بل «يفكر… ويفكر كثيراً». وذكر أحد الرفاق المقربين له، كما يروي كريم: «عندما يريد أن يأخذ قراراً كبيراً، ينام على القرار ستة أشهر، وربما سنة كاملة». وأضاف كريم: «وهذا ليس عيباً. هذا تفكير عميق وحذر سياسي».
ثم سأله المحاوِر مباشرة: «هل تنظر إلى الرئيس مسعود كزعيم كردي فقط؟ أم كزعيم عراقي؟ أم أنه زعيم بمعنى الحضور في المنطقة؟».
رد كريم قائلاً: «لو كان زعيماً كردياً فقط، لكانت مساحة حضوره أصغر بكثير». ثم تابع: «من بقي زعيماً تاريخياً للشعب الكردي؟ مسعود برزاني. وهذا ليس كلامي وحدي. هذا ما تقوله التجربة». وأكد أن الخطأ الأكبر الذي ترتكبه القوى الموجودة في بغداد هو عدم الاستفادة من وجود مسعود برزاني. «يحاولون استفزازه»، قال كريم، «ويتجاوزون على حقوق الإقليم، ويتوهمون أنهم قادرون على التسلل إلى نقاط حساسة تمس مسعود شخصياً أو تمس القضية الكردية. وهذا خطأ كارثي».
الكرد بحاجة إلى نافذة على العالم العربي
طرح المحاوِر سؤاله قبل الأخير، قائلاً: «كيف يستطيع الكرد أن يبرهنوا لهذا المحيط العربي بأنهم جزء منه، وأنهم يتشاركون معه الهموم نفسها التي تقع على هذا العالم العربي؟ وكيف يمكنهم التخلص من تهمة الانفصاليين والعنصريين التي تلاحقهم منذ أكثر من مئة عام حتى اليوم؟».
أجاب فخري كريم قائلاً إن المشكلة الأساسية تكمن في غياب نافذة فعّالة للكرد على العالم العربي. «للأسف الشديد»، قال، «الرفيق مسعود، وكذلك الجهات الأخرى، لا يمتلكون نافذة قوية تطل على العالم العربي. وهذه نقيصة كبرى». ثم أوضح أن بعض الدعم أو التفاعل العربي موجود لكنه محدود جداً، وغالباً يأتي عبر مبادرات فردية أو عبر بعض القنوات العربية التي بدأت مؤخراً بالالتفات إلى الحضور الكردي.
وتابع حديثه مشيراً إلى مثال لافت: «إحدى القنوات المصرية والعربية بدأت قبل فترة ببث قوائم بأسماء أبرز الشخصيات الفنية من أصول كردية، وإذا بك تكتشف أن كل هؤلاء الفنانين أفراد متألقون في مجالاتهم». وأضاف أن هذا الأمر ينطبق أيضاً على المجال الثقافي والفكري، حيث يرى أن «أبرز الشخصيات في الحياة الثقافية في العراق هم من الأكراد»، لكن، كما يقول، جرى طمس هذا الدور وإخفاؤه لعقود طويلة.
واستطرد قائلاً إن الخطاب السائد في بعض البلدان العربية يصوِّر الكرد بطريقة مبسّطة ومشوهة، وكأنهم «كتلة واحدة»، يُقال عنهم إنهم «شيعة وسنّة يُحتضَنون ويُستَخدَمون، ولا يُحترمون». وأكد أن هذه النظرة ليست محصورة بالكرد وحدهم، بل «حتى الشيعة عند العرب… انظر ماذا يفعلون بهم».
وأضاف فخري كريم أن هناك ضرورة ملحّة لفتح قنوات تواصل حقيقية مع العالم العربي، وأن هذا التواصل مهم «سواء بقي الإقليم ضمن العراق أو تطور مستقبلاً ليصبح دولة». وأوضح قائلاً: «حتى لو حدث ذلك بعد عشر سنوات أو عشرين سنة… هذا الكيان موجود في هذه الجغرافيا، وهذه المنطقة محاطة ببغداد، وبالبوابة الإيرانية، وبالبوابة التركية، وبسوريا المتغيرة، والعالم العربي منفتح بطبيعته على هذا الموضوع».
ثم تحدث بابتسامة مريرة عن الصورة التي رُسمت للكرد على مدى عقود، قائلاً إن العرب عارضوا الكرد ليس لأنهم ضد الشعب الكردي نفسه، بل «ضد ما قيل عنهم، ضد الصورة التي صُنعت لهم: أنهم موساد، أنهم إسرائيل، أنهم انفصاليون». وأضاف بسخرية خفيفة: «والحمد لله… الآن التجمع الإبراهيمي يشمل أغلب العرب باستثناء الأكراد. وربما سيستخدمون هذا التجمع نفسه للتعريض بالأكراد، باعتبارهم خارج “المعسكر الإبراهيمي”».
قاطعه المحاور بسؤال حول ما إذا كان يُلمّح إلى أن المبادرات التي تطرح للتسوية أو التطبيع في المنطقة تحمل شيئاً إيجابياً. فضحك كريم وقال إن حديثه أقرب إلى المزاح، ليضيف: «الآن عدد من البلدان اختارت طريقها ووقّعت معاهدات مع إسرائيل. لكن الحديث اليوم عن التطبيع، أو عن العلاقة مع إسرائيل، هو بالنسبة لي أمر جارح جداً».
وتابع قائلاً إن الجرح ليس سياسياً عنده بقدر ما هو إنساني، مشيراً إلى «المآسي والجرائم التي ارتُكبت، والتي هزّت ضمائر الرأي العام العالمي، بما في ذلك الحاخامات والرموز الدينية الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، الذين خرجوا حاملين علم فلسطين». ثم ختم: «في هذه اللحظة، أن نتحدث عن إسرائيل ونتنياهو… بالنسبة لي هذا حديث موجِع، ولا أستطيع أن أتعامل معه كما لو أنه نقاش سياسي عادي».
هذا ما يكسرني!
وجّه المحاوِر سؤاله الأخير إلى فخري كريم قائلاً: «سؤالي الأخير يتعلق بك شخصياً، أستاذ فخري. كثيرون يعرفون، وربما كثيرون لا يعرفون، أنك تعرضت في حياتك لسبع محاولات اغتيال، وأنك اعتُقلت، وربما تعرّضت للتعذيب. ما الذي يمكن أن يكسر فخري كريم؟ ما الذي يهزك إن لم يكن الاغتيال، أو الخوف، أو التجارب القاسية؟ ما الذي يجعلك تنكسر؟».
ساد صمت قصير، قبل أن يجيب بصوت متأثر قائلاً: «حينما أرى هذا الوضع…». توقّف للحظة، وقد بدت الغصة واضحة في صوته، ثم أكمل: «حينما أرى الناس الذين بشّرناهم بالجنة على الأرض، يجدون أنفسهم في الخراب… هذا ما يكسرني».
عاد المحاور ليسأله عن سبب محاولته إخفاء تأثره، قائلاً: «لماذا تحاول أن تخفي هذا التأثر؟ غصة العراق واضحة على وجهك». فأجاب كريم بعد لحظة صمت: «صدقني… كل ما تعرضت له لا يعني شيئاً. السجن، التعذيب، كل تلك التجارب لا تساوي شيئاً أمام ما احتمله الآلاف من الأبطال الذين قضوا عشرات السنين في السجون، وتعرضوا إلى أشكال من التعذيب تفوق قدرة البشر. هؤلاء عاشوا الفاقة والفقر وقدموا عائلاتهم ثمناً لمواقفهم. أنا لا شيء أمامهم».
وأضاف بصوت أكثر عمقاً: «عشرات الآلاف من أبناء جيلي في ستينيات القرن الماضي مرّوا بما هو أقسى. كنت أذهب إلى الأمن العامة، فأرى ثلاثة فتيان معلّقين… أعمارهم أربعة عشر واثنا عشر عاماً. هؤلاء كبروا في السجن معنا. ماذا فعلت أنا مقارنة بما تحملوه؟». ثم أوضح أنه، في الفترة الأخيرة، عاد ليقرأ تاريخ الحركة الديمقراطية في مصر منذ عهد عبد الناصر وما بعده، قائلاً: «قرأت عن شخصيات امتلأت بها الحياة الثقافية والسياسية العربية، وشاهدت كيف تعرضت لويلات لا تُصدق. قرأت سبعين كتاباً… وكنت أبكي».










