سعد سلّوم
على امتداد قرابة خمسين عاماً، شهد المشهد السياسي المسيحي تشكّل شبكة معقدة من الأحزاب والتيارات والرابطات، من أبرزها: الحركة الديمقراطية الآشورية (1978)، حزب بيت نهرين الديمقراطي (1976)، اتحاد بيت نهرين الوطني (1996)، الحزب الوطني الآشوري (2003)، حزب الاتحاد الديمقراطي الكلداني (2000)، المجلس القومي الكلداني (2007)، المنبر الديمقراطي الكلداني (2007)، حركة تجمع السريان (2005)، مجلس أعيان بغديدا (2007)، كتلة الوركاء الديمقراطية (2013)، أبناء النهرين (2013)، بابليون (2014)، حركة المسيحيين الديمقراطية المستقلة (2015)، والرابطة الكلدانية (2015).
جميع هذه الكيانات، على اختلاف تواريخ تأسيسها وهوياتها الكلدانية أو الآشورية أو السريانية، نشأت استجابة لأزمات ما بعد الدولة المركزية وضعف التمثيل السياسي للمكوّن المسيحي. فالأحزاب الأقدم، مثل الحركة الديمقراطية الآشورية وحزب بيث نهرين الديمقراطي، شكّلت في السبعينيات والثمانينيات بدايات العمل السياسي المنظم، مرتكزة على مشروع قومي وآمال بالتمثيل المركزي. بينما جاءت تنظيمات التسعينيات وبداية الألفية، مثل اتحاد بيت نهرين الوطني والحزب الوطني الآشوري وحزب الاتحاد الديمقراطي الكلداني، لتعكس تحوّل الهوية إلى أطر حزبية متعددة تبحث عن موطئ قدم في نظام ما بعد صدام حسين. مع العقد التالي، ظهرت موجة جديدة من الكيانات ذات الطابع المحلي أو الكنسي أو المجتمعي، مثل مجلس أعيان بغديدا، الرابطة الكلدانية، تجمع السريان، وكتلة الوركاء، كرد فعل على الإحساس بالتهميش الأمني والديموغرافي وفشل القوى التقليدية في حماية المجتمع. وفي الوقت نفسه، برزت تشكيلات جديدة مدعومة بقوة على الأرض مثل بابليون، وتيارات إصلاحية منشقة مثل أبناء النهرين، ما أضاف طبقة جديدة من التنافس على مقاعد الكوتا أكثر مما أضاف تمثيلاً فعلياً.
نتيجة ذلك، تحوّل المشهد المسيحي إلى فسيفساء حزبية متشظية، محدودة الفاعلية، حيث تتوزع الأصوات القليلة أصلاً بين كيانات كثيرة، وتبقى المقاعد عرضة لتأثيرات خارجية أكثر من كونها تعبيراً دقيقاً عن إرادة الجمهور المسيحي. وعلى امتداد العقدين الماضيين، أصبح التمثيل السياسي للمكوّن المسيحي بمثابة مختبر مكشوف يُظهر التحديات التي تواجه الأقليات في الأنظمة الانتخابية الهشة، فقد كشفت الدورات الانتخابية عن خلل بنيوي مزمن في بنية الكوتا، وتبدلاً مستمراً في موازين القوى داخل المكوّن وخارجه، وانكماشاً ديموغرافياً قاسياً، يقابله تمدد متزايد لتأثير الأطراف السياسية الأكبر، على مسار التصويت ونتائجه. لم تكن الكوتا، كما صُممت، قادرة على حماية التمثيل المسيحي، بل تحولت تدريجياً إلى ساحة مفتوحة يتنافس فيها اللاعبون الكبار، فيما تقلصت قدرة المكوّن على توجيه مخرجاتها بما يعكس إرادته الحقيقية.
عند محطة انتخابات 2005، كانت التجربة لا تزال تتسم بقدر معتبر من التمثيل الذاتي للمسيحيين. فبغياب نظام الكوتا في انتخابات الجمعية الوطنية، سمحت صيغة "العراق دائرة واحدة" بتجميع التصويت المسيحي المبعثر(داخل العراق وخارجه) ما أتاح لقائمة الرافدين (الحركة الديمقراطية الآشورية) أن تفوز بمقعد في الانتخابات الأولى ثم بمقعد آخر في انتخابات مجلس النواب للعام ذاته. في تلك اللحظة، كان التمثيل المسيحي نتاجاً مباشراً لإرادة ناخبيه، دون أي تدخّل خارجي أو تأثير موازين القوى غير المسيحية على صناديق الكوتا، إذ لم تكن الكوتا قد وُجدت بعد.
لكن التغيير الأكبر جاء مع تعديل قانون الانتخابات عام 2009، حين أُقرت خمسة مقاعد كوتا موزعة على محافظات بغداد ونينوى وكركوك وأربيل ودهوك، مع الإبقاء على العراق دائرة وطنية واحدة للتصويت. كان هذا التصميم مزيجاً غير مستقر بين منطق المحافظة كوحدة تمثيل، ومنطق الدولة كوحدة تصويت، ما أطلق مشكلة ستتكرر في كل دورة لاحقة: فوز مرشح بأصوات قليلة في محافظة ما، وخسارة آخر بأصوات أعلى في محافظة اكتمل فيها المقعد. هكذا، تحوّل التمثيل من وزن انتخابي للمسيحيين إلى معادلة جغرافية صلبة تتجاوز حجم الأصوات الفعلية، وتخلق خللاً عدالياً لا يمكن تصحيحه في ظل النظام القائم.
في انتخابات 2010، تجلى هذا الخلل بوضوح. فرغم حصول قائمة الرافدين على 28,095 صوتاً وفوزها بثلاثة مقاعد، فإن مجموع أصوات المرشحين المسيحيين الخمسين بلغ 48,558 فقط، وهو رقم يعكس الحجم الواقعي للكتلة المسيحية داخل العراق آنذاك. لم يساهم النظام الجديد في توسيع المشاركة، ولم يضمن عدالة توزيع الأصوات، لكنه فتح الباب أمام تنافس داخل المحافظات الخمس، وزاد من اعتماد القوائم على استراتيجيات حشد تتجاوز القاعدة المسيحية نفسها.
مثّلت انتخابات 2014 آخر محطة يمكن وصفها بأنها قريبة من التمثيل الذاتي للمكوّن. فقد توزعت المقاعد الخمسة على قائمة الرافدين والمجلس الشعبي الكلداني السرياني والوركاء الديمقراطية وفق مجموع أصوات بلغ 68,906، وهو رقم منطقي قياساً بعدد المسيحيين داخل العراق في تلك الفترة. إلا أن هذا التوازن سرعان ما تبدد مع تغير البيئة السياسية والأمنية، وبدء موجات جديدة من الهجرة، وتزايد تدخل القوى السياسية الكبرى في توجيه أصوات الكوتا.
اعتباراً من انتخابات 2018، بدأت الكوتا المسيحية تكشف بوضوح مدى هشاشتها أمام التأثيرات السياسية الأوسع. فقد ارتفع مجموع الأصوات إلى 87,397، رغم أن الواقع الديموغرافي يشير إلى تقلّص القاعدة المسيحية. من بين نتائج هذا التغير، برزت حركة بابليون التي حصلت على 33,119 صوتاً وفازت بمقعد واحد، في مؤشر على دخول أصوات من خارج القاعدة التقليدية للمكوّن. كان ذلك بداية مسار لاحق أصبح فيه التنافس على صناديق الكوتا أكثر تعقيداً، إذ لم تعد مجرد مساحة لتمثيل المسيحيين حصراً، بل باتت تتأثر بالقوى السياسية الأكبر.
وجاءت انتخابات 2021 لتُبرز هذا التحول بشكل أكثر وضوحاً، إذ ارتفع مجموع الأصوات إلى 118,003، وهو رقم يتجاوز بشكل كبير الكتلة المسيحية الفعلية، فيما حصلت حركة بابليون وحدها على أكثر من 50 ألف صوت مكّنتها من حصد أربعة مقاعد، ما يعكس دور التداخل بين التمثيل المحلي والمشاركة الواسعة غير التقليدية في تشكيل نتائج الكوتا.
بلغ المشهد ذروته مع إلغاء تصويت الخارج، وهو القرار الذي حرم نحو 80% من المسيحيين العراقيين من التصويت، وأزال أحد أهم مصادر القوة الانتخابية الحقيقية للمكوّن. وبذلك أصبحت الكوتا مكشوفة بالكامل أمام تأثير القوى الأكبر القادرة على التعبئة والتوجيه، فيما انكمش الوزن الذاتي للمسيحيين إلى حدود دنيا.
مع انتخابات 2025، شهدت الساحة المسيحية تحولات مركبة: تراجع مجموع التصويت إلى 78,265، لكنه بقي أعلى من القدرة التصويتية الفعلية للمسيحيين داخل العراق، ما يعني استمرار دخول أصوات غير مسيحية. تراجع نفوذ حركة بابليون إلى مقعدين فقط بعد أن كانت القوة المهيمنة في 2021، بينما تنافس مرشحون محليون مستقلون أو شبه مستقلين تعبيراً عن تحوّل مزاج الناخب المسيحي نحو التمثيل المحلي المباشر بعيداً عن القوائم الكبيرة. هذا الصعود المحلي جاء، وفق الكثير من القراءات، نتيجة شعور متزايد لدى المسيحيين بأن التمثيل القومي أو الحزبي لم يعد قادراً على حمايتهم أو التعبير عنهم، وأن التنافس الحقيقي بات في مساحة صغيرة مرتبطة بالمجتمع المحلي الذي يعيشون فيه. في جميع الأحوال تمكن الحزب الديمقراطي الكردستاني من تقاسم نفوذه مع بابليون على مقاعد الكوتا المسيحية، ما أضاف بعداً آخر من التحكم والتأثير الخارجي على نتائج التمثيل، إلى جانب الانزياح نحو التمثيل المحلي.
في الوقت ذاته، شهدت الساحة السياسية انكماشاً حاداً في عدد المرشحين المسيحيين. إذ تراجع عددهم من 82 مرشحاً في 2014 إلى 66 في 2018، ثم إلى 33 في 2021، قبل أن يصل إلى 19 فقط في 2025، وهو تراجع لا يمكن تفسيره إلا من خلال مجموعة عوامل متداخلة: قسوة النظام الانتخابي الجديد (SNTV) على المكوّنات الصغيرة، تقلص فرص الفوز في ظل التنافس الحاد داخل المحافظات، هيمنة بعض القوائم في دورات معينة، وتراجع الثقة بجدوى المشاركة السياسية نفسها. كلما ضاقت الدائرة على مستوى المحافظة، تضاءلت قدرة المكوّن المسيحي على تقديم مرشحين يعكسون تنوعه الداخلي، وتراجعت القدرة التنظيمية للقوائم التقليدية.
لا يمكن قراءة هذا المسار دون التوقف عند أثر الشتات المسيحي، الذي يمثل بين 60% -80% من مجموع الطوائف المسيحية البالغ (14) طائفة. سواء للكلدان في ولاية ميتشيغان (ديترويت) او الآشوريين في كاليفورنيا (لوس أنجلوس وسان دييغو) وشيكاغو، وأستراليا (سيدني وملبورن) ومدن أوربية عديدة.
فمنذ إلغاء تصويت الخارج في 2021 و2025، فقدت الكوتا أهم رافعة انتخابية كانت تساعد في موازنة تأثير القوى الأكبر. لقد كان الشتات تاريخياً صوتاً محافظاً على الهوية المسيحية، ونموذجاً لتصويت واعٍ يرفع من مستوى التمثيل، لكن إقصاءه ترك الكوتا عرضة بالكامل لهيمنة القوى السياسية واسعة النفوذ.
عند النظر إلى الصورة الشاملة الممتدة خلال عشرين عاما : 2005 -2025، يتضح أن الكوتا المسيحية فقدت وظيفتها الأساسية كآلية لحماية تمثيل مكوّن صغير يعاني تراجعاً ديموغرافياً. فالمقاعد الخمسة لم تعد تُشغل بناء على إرادة المكوّن، بل تحولت إلى جزء من لعبة التوازنات الوطنية، تُستخدم فيها أصوات غير مسيحية لترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك. وتشير التقديرات إلى أن الكتلة التصويتية المسيحية الحقيقية داخل العراق لا تتجاوز 25 إلى 35 ألف صوت، أي أقل بكثير من الأرقام التي تظهرها نتائج الانتخابات، الأمر الذي يجعل أي دورة انتخابية تتجاوز فيها الأصوات 40 ألفاً حالة اختلال بنيوي ناتجة عن تدخل خارج المكوّن. و يستند رقم (25 - 35 ألف صوت) إلى تقدير ديموغرافي انتخابي مركّب، وليس إلى رقم أحادي المصدر. فوفقاً لتقديرات السكان التي تصدرها منظمات دولية كـ IOM وتقارير الكنائس المحلية، يتراوح عدد المسيحيين المقيمين داخل العراق اليوم بين 120 و160 ألف نسمة، لا تزيد نسبة من يحق لهم التصويت بينهم عن 55-65 %. ومع الأخذ في الحسبان معدلات المشاركة الفعلية التي لا تتجاوز عادة 35-45 % نتيجة الهجرة والتشتت وانخفاض الثقة بالعملية السياسية (المقاطعون)، فإن العدد المتوقع للناخبين المسيحيين الذين يشاركون فعلياً في الاقتراع لا يتعدى سقف 28 إلى 38 ألف مشارك في أفضل الأحوال. ويعزّز هذا التقدير ما أظهرته الدورات الانتخابية بين 2005 و2014، حين كانت صناديق الكوتا تعكس بصورة شبه صافية إرادة الناخبين المسيحيين قبل دخول أصوات من خارج المكوّن، إذ لم يتجاوز مجموع الأصوات حينها حدود 60 إلى 70 ألفاً حتى مع احتساب تصويت الخارج. وعليه، يصبح أي ارتفاع في الأصوات يتجاوز عتبة 40 ألفاً داخل العراق مؤشراً على اختلال بنيوي في الكوتا، ناجماً عن تدخل قوى غير مسيحية في توجيه النتائج، ولا يعكس القدرة التصويتية الفعلية للمكوّن المسيحي.
إن الأزمة التي تواجهها الكوتا المسيحية لا تتعلق بالقانون وحده، ولا بمجرد ارتفاع أو انخفاض عدد الأصوات، بل هي أزمة تمثيل وهوية سياسية ترتبط مباشرة بمستقبل الوجود المسيحي في العراق. ففي ظل نظام انتخابي غير مستقر، وتراجع ديموغرافي متواصل، وتزايد انكشاف الكوتا أمام قوى لا تنتمي إلى المكوّن، أصبحت الكوتا اختباراً لقدرة الدولة على حماية المكونات الأصغر وضمان بقائها السياسي. ومع الانتخابات الأخيرة، يقف المكوّن المسيحي أمام مفترق طرق حقيقي: إما إعادة تعريف نظام التمثيل بما يضمن أن تكون أصوات المسيحيين هي المحددة لاختيار ممثليهم، أو استمرار مسار التلاشي السياسي الذي بدأ منذ أكثر من عقد، ويتواصل بفعل بيئة انتخابية غير قادرة على إعادة إنتاج العدالة.
وبينما يتجدد النقاش حول ضرورة تغيير بنية الكوتا والصيغة الانتخابية، تبدو السنوات المقبلة حاسمة لمراجعة تمثيل المسيحيين. فالتنوع لا يُحمى بالمواد الدستورية فقط، بل بمنظومة انتخابية عادلة. وإذا لم تُصغ هذه المنظومة بما يضمن إنصاف أصغر المكونات، فستظل الكوتا مرآة لخلل سياسي أعمق، وتعبيراً عن مسار تراجع قد يصعب وقفه مستقبلاً.










