د. امجد السواد
تكشف نتائج الانتخابات الأخيرة مفارقة قاسية في بنية الحقل السياسي الشيعي. فالقوى التي لم تملك تاريخاً فكرياً، أو نسقاً عقائدياً متماسكاً، أو بنية معرفية واضحة — كصادقون — صعدت بقوة لافتة؛ بينما تراجع الحزب الذي كان يوماً “أب الأحزاب الإسلامية الشيعية”: حزب الدعوة الإسلامية.
المسألة ليست تغيّراً في المزاج الانتخابي فحسب، بل تحوّلاً بنيوياً في طبيعة اللعبة السياسية نفسها منذ عام 2003، وفي طبيعة الأحزاب التي أصبحت قادرة على التقدّم.
لقد نشأ الدعوة في خمسينيات القرن الماضي بوصفه حزباً نخبوياً عقائدياً، قائماً على بناء فكري وتنظيمي متماسك، استقطب مفكرين وقيادات ذات وزن ديني وثقافي، وخاض صراعاً وجودياً مع البعث. لكن النموذج السياسي بعد 2003 لم يعد يكافئ هذا النمط من التنظيمات. فالنفوذ لم يعد يصنعه الفكر، بل القدرة على التعبئة السريعة، وتوزيع الخدمات، والسيطرة على الأرض، وامتلاك الموارد المالية والمسلحة. ولهذا كان من الطبيعي أن تصعد قوى ذات حضور شعبي ميداني، وأن تتراجع أحزاب ذات حمولة فكرية وثقافية لا تجد جمهوراً جاهزاً لاستقبالها.
القوى التي صعدت اليوم، مثل صادقون، تمتلك “ماكينة تعبئة” كاملة: نفوذ مسلح، اقتصاد موازٍ، إعلام مؤثر، شبكة خدمات يومية، حضور اجتماعي مستمر، وقدرة على فرض الإيقاع الأمني والانتخابي في المناطق الريفية والفقيرة. أما حزب الدعوة فقد تحوّل، منذ سنوات المالكي، إلى “حزب دولة” يعتمد على السلطة التنفيذية، الوزارات، والمواقع الحكومية أكثر مما يعتمد على المجتمع. وما إن خرج من رئاسة الوزراء حتى تبيّن أن بنيته التعبوية فارغة تقريباً.
وبعد 2014 تغيّرت هوية الجمهور الشيعي جذرياً. صارت “المقاومة”، والسلاح، وحماية المكوّن، هي المفاهيم الأكثر حضوراً في المخيال الجمعي، بينما تراجع خطاب الدعوة الفكري القائم على النظرية السياسية الإسلامية. وبفعل ذلك أصبحت صادقون تتحدث بلغة اللحظة، بينما يتحدث الدعوة بلغة حقبة مضت.
لكن ما جرى داخل الدعوة كان أعظم أثراً من الضغوط الخارجية. الهرم التنظيمي الذي كان يقوم على تراتبية صارمة — مؤتمر، شورى، قيادة، أمين عام — بدأ ينهار حين دخل منصب رئيس الوزراء على خط القرار الداخلي. فقد تم تسخير السلطة التنفيذية لإعادة تشكيل التراتب الحزبي، وإزاحة قيادات، وتعيين أخرى، وتوجيه المؤسسات التنظيمية وفقاً لإيقاع الموقع السياسي لا وفقاً لمنطق الحزب. وحين خرج الجعفري من رئاسة الوزراء سقط من موقع الأمين العام، ثم حصل الأمر ذاته في مراحل لاحقة، ما جعل القيادة جزءاً من لعبة السلطة لا من لعبة التنظيم.
ومع الوقت تحوّل الحزب إلى نموذج جديد: نموذج جندي الشطرنج.
لم تعد القيادة تنتج شخصيات دعوية ناضجة تمتلك رؤية وقناعة وشخصية مستقلة. بل أصبحت تعمل على صناعة أدوات سياسية قابلة للتحريك داخل رقعة السلطة، بصرف النظر عن خلفياتها، أو تكوينها الفكري، أو انتمائها التنظيمي.
جندي الشطرنج يتحرك وفق قرار اللاعب، لا وفق عقله أو تجربته.
ولأجل ذلك تم تصنيع شخصيات من خارج الدعوة — حنان الفتلاوي، عالية نصيف، هيثم الجبوري، وغيرهم — ودُفع بهم إلى واجهة المشهد، بينما أزيحت قيادات دعوية تاريخية كانت تملك رأياً واعتداداً وذكاء تنظيميّاً لا يسمح بتوظيفها كأداة.
هذا الأسلوب فتح الباب لاختراقات واسعة. فقد دخل الجهاز التنفيذي والتشريعي أشخاص بلا تاريخ نضالي أو ولاء تنظيمي، بل حتى من بقايا البعث، وهو ما ظهر في هذه الانتخابات حين أُبعد عدد غير قليل من المرشحين المحسوبين على “دولة القانون” بسبب شمولهم بإجراءات المساءلة والعدالة.
هكذا أصبح الحزب الذي كان يوماً رمزاً لمواجهة البعث متّهماً — ولو جزئياً — بتمكين بقاياه عبر بوابات السلطة.
ثم جاءت الضربة الأخرى: تضخم الكتلة على حساب الحزب.
فحين توسعت “دولة القانون” صارت فضاءً مفتوحاً لحركات وتجمعات جديدة، بعضها ابتلع شباب الدعوة وقواعدها — مثل “البشائر” — وبعضها حصل على مواقع سياسية ومادية واسعة ثم غادر أو غيّر ولاءاته. لقد أصبح الحزب نفسه أقلية داخل كتلته الانتخابية، وصار صوت الداعية الحقيقي غريباً بين الشخصيات التي صُنعت على عجل أو تلك التي جاءت بحثاً عن النفوذ.
وبسبب هذا كله، تحولت القيادة في الدعوة إلى طبقة أوليغارشية مغلقة؛ نخبة صغيرة تملك القرار، المواقع، العلاقات، وتعيد إنتاج ذاتها. وفي الوقت نفسه همّشت الكوادر النخبوية التي كانت عماد الحزب لعقود. أبعدتهم عن المناصب التنفيذية والتشريعية، وحجّمت دورهم السياسي، وسمحت لأشخاص بلا تجربة حزبية بالتصدر. وهذه الثنائية — قيادة أوليغارشية + قواعد مهمّشة — خلقت قناعة شعبية بأن الدعوة لا تمنح أبناءها ما يستحقون، وأنه حزب لا يكافئ المخلصين، فكيف سيثق الجمهور بحزب لا يثق بأبنائه؟
في المقابل، تحوّلت صادقون أيضاً إلى بنية أوليغارشية، لكنها اعتمدت استراتيجية مختلفة تماماً:
توزيع واسع للمواقع والفرص والمناصب على المنتمين الجدد، وفتح الباب أمام الشباب، وإدخال الدماء الجديدة إلى الجسم التنظيمي.
وهذا جعل صورتها أمام قواعدها الشعبية أقرب إلى “الكتلة التي تكافئ أبناءها”، لا إلى الكيان المغلق المتخشب. ولذلك بدت صادقة في خطابها الداخلي مقارنة بالدعوة التي خسرت صورتها لدى جمهورها قبل أن تخسرها لدى الشارع.
إن تراجع الدعوة وصعود صادقون ليس حدثاً انتخابياً، بل تحوّل تاريخي في السياسة الشيعية. إنه انتقال مركز الثقل من الحزب العقائدي — الذي ينتج قادة — إلى الكتلة التعبوية — التي تنتج أدوات. ومن التنظيم المعرفي إلى الشبكة المسلحة. ومن الفكر إلى القوة. ومن الشرعية التاريخية إلى الشرعية الميدانية.
هذه القصة ليست قصة حزب خسر مقاعده، بل قصة نموذج سياسي انهار أمام نموذج جديد.
وحين يتراجع الفكر أمام القوة، والتنظيم أمام الشبكة، والتاريخ أمام اللحظة، يصبح من الطبيعي أن يصعد “جندي الشطرنج” بينما يتراجع صاحب الرؤية.










