TOP

جريدة المدى > خاص بالمدى > استثمارات زراعية مثيرة للجدل في كربلاء: مشاريع تتمدد والمياه تتراجع لحساب «نفوذ سياسي»

استثمارات زراعية مثيرة للجدل في كربلاء: مشاريع تتمدد والمياه تتراجع لحساب «نفوذ سياسي»

نشر في: 1 ديسمبر, 2025: 12:03 ص

 بغداد / تبارك عبد المجيد

على الطريق الممتد بين الصحراء والبساتين القديمة في كربلاء، تتبدل ملامح الأرض بوتيرة متسارعة؛ بساتين تُقتلع، آبار تُستنزف، ومساحات خضراء تختفي تحت عجلات الجرافات ومشاريع الاستثمار المتنامية. وما كان يُفترض أن يكون مشروعاً وطنياً لاستصلاح الصحراء وتعزيز الأمن الغذائي، تحوّل اليوم إلى ملف مثير للجدل تختلط فيه الأبعاد الاقتصادية والسياسية، ويشتبك فيه الزراعي مع نفوذ الجهات المتنفذة.

وأعرب أهالي محافظة كربلاء في نهاية تشرين الثاني عن استيائهم من الترويج لفكرة وجود «كتلة سياسية» تدعو إلى تظاهرات «وهمية» ضد مشروع استثماري في حي الرسالة، بزعم وجود حدائق في موقع المشروع، بينما أكدت الجهات المختصة في التخطيط العمراني أن الأرض المعنية ليست حدائق وأن المناطق الخضراء الفعلية تقع خلف مستشفى الأطفال.
ورداً على هذه الادعاءات، أكد أهالي حي الرسالة والمناطق المجاورة أن «المظاهرات ليست مفبركة»، وأن سكان المنطقة تبنّوا الاعتراض. وقال صميم عباس: «نعلن احتجاجنا السلمي اليوم اعتراضاً على تحويل الأرض التي أُزيلت منها العشوائيات، والتي وُعِدنا بأن تصبح حديقة كبيرة ومتنفساً للعوائل، إلى مشروع استثماري لا يخدم سكان هذه المناطق المكتظّة. إنّ حرمان آلاف العوائل من مساحة خضراء عامة مخالفة للوعود الرسمية وإجحاف بحق المواطنين الذين يفتقرون لأبسط أماكن الراحة والترفيه».
كما عبّر المواطن عبد الجليل إبراهيم عن موقفه قائلاً: «يجب قيام تظاهرات وجعل هذا المكان حدائق عامة تستفيد منها البلدية بجعلها مناطق ألعاب يمكن تأجيرها لتوفير موارد مالية، ويعمل فيها العاطلون عن العمل كمشغلي ألعاب، بدل أن تُعطى لمستثمرين من خارج المحافظة أو لمستثمر خليجي. أما في حال إنشاء مجمع سكني فستكتظ المدينة، وهذا غير مجدٍ. الفقير لن يستفيد، وستباع الوحدات بأسعار باهظة للأغنياء. المجمعات السكنية يجب أن تُبنى خارج حدود البلدية، وكل ما يوجد داخلها يجب أن يكون مساحات خضراء».
وأضاف حيدر الطائي: «أزيل التجاوز وأُنشئ مجمع سكني. في البداية قيل إنها حديقة، ثم تحولت إلى مشروع استثماري، ثم قيل إن جهة سياسية تستهدف الاستثمار. عن أي استثمار نتحدث؟ عن المجمعات السكنية التي أُعطيت بالمجان للمستثمرين بحجة حل أزمة السكن فتحولت إلى مجمعات للمتنفذين بأسعار باهظة؟ عن الاستثمار الذي أدى إلى بيع أراضي معمل تعليب كربلاء أو معمل التمور وتحويلها إلى جامعة تابعة للجارة العزيزة؟ هل نحن بحاجة لمثل هذه الجامعات؟ وهل الاستثمار الحقيقي هو إنشاء مجمع سكني بمساحات فلل 400 متر في موقع مميز للقضاة ويظل فارغاً طوال السنة؟ حتى القاضي عند زيارته كربلاء يومين يملك فلة يسكن فيها. هل هذا هو الاستثمار؟».
يتحدث جلال الشمري عن ملامح الأزمة، حيث تحوّل الاستثمار الزراعي الذي أُسس أساساً لاستصلاح الأراضي الصحراوية إلى مشروع يثير أسئلة جدية حول جدواه الاقتصادية واستنزافه لموارد البلد الطبيعية. ويشرح الشمري لـ«المدى» أن خطة وزارة الزراعة بدأت عام 2020 بتخصيص مساحات واسعة من الصحراء وتحويلها إلى أراضٍ زراعية اعتماداً على وفرة المياه الجوفية في المنطقة آنذاك، بهدف تعزيز الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الأساسية، ولا سيما الحنطة والشعير.
وقد انتشرت زراعة الحنطة في مناطق صحراوية عدة، وازداد الإقبال عليها بفعل سياسة تسعير حكومية شجّعت المزارعين عبر شراء المحصول بسعر يقارب السعر العالمي. لكن هذا النجاح الظاهري، وفقاً للشمري، فتح الباب أمام متنفذين ومستثمرين كبار للاستحواذ على مساحات ضخمة من الأراضي، حتى امتدت بعض المشاريع إلى حدود محافظة الأنبار. ويضيف أن الدولة، رغم معاناتها من شح مائي غير مسبوق وانخفاض حاد في مناسيب المياه الجوفية ودجلة والفرات، سمحت باستمرار هذه المشاريع بالتمدد، على الرغم من أن جدواها الاقتصادية أقل بكثير من حجم الموارد التي تُستهلك فيها. ويطرح الشمري تساؤلاً حول زراعة الحنطة بكميات تفوق حاجة البلاد، في وقت تدفع فيه الدولة مبالغ ضخمة لشراء المحصول ثم توزّع جزءاً منه كمساعدات لدول أخرى، مما يحقق «إثراءً كبيراً» للمستثمرين على حساب موازنة الدولة التي تحصل على عوائد متواضعة لا تتناسب مع حجم الإنفاق والدعم.
ولم تتوقف الإشكالات عند ملف الحنطة، إذ يشير الشمري إلى أن مشاريع وزارة الزراعة في كربلاء تتعرض لمحاولات «ابتلاع» من جهات نافذة. ومثال ذلك مشروع الحزام الأخضر الذي أُنفقت عليه مليارات الدنانير بهدف خلق غطاء نباتي يحمي المدينة من العواصف والغبار. لكن تقشف الوزارة لاحقاً تسبب في تراجع العناية بالمشروع، ومع بداية ظهور نتائجه، تدخلت جهات دينية — العتبات تحديداً — فتقدمت أولاً كشريك تشغيلي، ثم طالبت بالاستملاك بعد ستة أشهر فقط. وبالفعل، أصبح الحزام الأخضر بشقيه الشمالي والجنوبي ملكاً لتلك الجهات.
ويؤكد الشمري أن الأمر ذاته يتكرر في مشاريع الثروة الحيوانية التابعة لوزارة الزراعة أو مديرية زراعة كربلاء، إذ «تسعى جهات نافذة إلى سحبها من المستثمرين وتحويلها إلى ملكيات خاصة». ويخلص إلى أن المشهد الزراعي في كربلاء يعاني اليوم من تراجع واضح، سببه الأساسي حصول متنفذين على فرص استثمارية بطريقة «غير شفافة»، ما يحرم المستثمرين الحقيقيين من الوصول العادل إلى المشاريع، ويهدد مستقبل الزراعة في المحافظة كلها في ظل أزمة مياه خانقة واستنزاف متصاعد للثروات الطبيعية. من جانبه، يقول الإعلامي ياسر الشمري، مسؤول إعلام الجمعيات الفلاحية التعاونية في كربلاء المقدسة، إن الاستثمار في الأراضي الزراعية بات يحقق عوائد مالية كبيرة بفضل المشاريع التي تُقام على هذه المساحات، إلا أن هذا النمو الاستثماري يحمل وجهاً آخر أكثر خطورة يتمثل في تأثيره المباشر على البيئة الزراعية والغطاء النباتي في المحافظة.
ويبين الشمري لـ«المدى» أن العديد من المشاريع الاستثمارية تبدأ بتجريف البساتين وما تحتويه من أشجار نخيل وفاكهة وتحويلها إلى أراضٍ خالية من المساحات الخضراء، وهو ما يعد مخالفة قانونية صريحة لأن جنس هذه الأراضي مصنف زراعياً، ما يجعل تغيير استعمالها أو إزالة غطائها النباتي تجاوزاً واضحاً على القانون.
ويضيف أن خطورة هذا الواقع لا تقف عند حدود البيئة فقط، بل تهدد أيضاً مستقبل الفلاحين والمزارعين الذين يعتمدون على بساتينهم كمورد أساسي للعيش. ولهذا يرى الشمري أن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق أصحاب الحيازات الزراعية في الحفاظ على أراضيهم ومنع التفريط بها، كي لا يجدوا أنفسهم أمام تمدد استثماري يبتلع ما تبقى من بساتينهم. كما يدعو الشمري الدولة إلى دور أكثر فاعلية عبر تشريع قوانين صارمة وتفعيل القوانين القائمة لمنع تجريف البساتين وتجزئتها، وذلك للحد من توسع الاستثمارات غير المشروعة، وضمان حماية الأرض الزراعية واستدامة المساحات الخضراء التي تعد رئة المدينة ومصدراً لقوتها الزراعي.
وعبّر يوسف الموسوي، ناشط ومراقب للشأن المحلي، عن استياء واسع مما يشهده يومياً من تجاوزات على أراضي الدولة والمساحات الخضراء، حيث تتحول البساتين والحدائق إلى بيوت ومعامل وفلل وقصور تُقام لصالح متنفذين، بعيداً عن تطبيق القانون.
ويرى الموسوي أن «الأخطر في هذه الظاهرة هو أن بعض المتجاوزين يبنون على الأراضي العامة معتقدين أن الدولة ستضطر مع الوقت إلى تمليكهم بحكم الأمر الواقع»، واصفاً ذلك بأنه استغلال لا يمتّ إلى السكن الاضطراري أو الحاجة الفعلية. ويؤكد لـ«المدى» أنه لا يعترض على قدوم سكان من خارج المدينة أو على اندماجهم في المجتمع، بل يرحب بهم، لكنه يشدد على ضرورة التدقيق الأمني، وعلى أن يكون السكن في أماكن قانونية لا على حساب أراضي الدولة أو المساحات الخضراء التي تعد متنفساً مهماً للمدينة.
ويحذر الموسوي من أن العديد من المحافظات بدأت تفقد شكلها الحضري ومساحاتها الخضراء، متسائلاً عن سبب التزام المواطن البسيط بالقانون مقابل تجاوزات واضحة يمارسها آخرون أمام مرأى الجميع. ويشير إلى أن هذه الفوضى العمرانية تمارس ضغطاً كبيراً على المدينة وتشوه تخطيطها، مؤكداً أن المدن تستحق نظاماً عمرانياً واضحاً وحماية حقيقية لأراضيها، وداعياً إلى اتخاذ إجراءات قوية وحاسمة توقف هذا العبث قبل الوصول إلى مرحلة يصعب تداركها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

مقالات ذات صلة

لا حسم في

لا حسم في "الإطار": الملف البرتقالي يخرج بلا مرشحين ولا إشارات للدخان الأبيض

بغداد/ تميم الحسن أصبح "الإطار التنسيقي" يبطئ خطواته في مسار تشكيل الحكومة المقبلة، بانتظار ما يوصف بـ"الضوء الأخضر" من واشنطن، وفق بعض التقديرات. وفي المقابل، بدأت أسماء المرشحين للمنصب الأهم في البلاد تخرج من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram