د. نادية هناوي
على الرغم مما رزحت تحته البلاد العربية في أواخر القرن التاسع عشر من انحطاط وتخلف، فإنه لم يحل دون أن يؤدي القاص دوره في التنوير والتوجيه، متخذا من السرد أداة لتغيير ما تدهور من أحوال الحياة وشؤونها. فكان أدباء سوريا والعراق وتونس ولبنان حريصين على تمثل الآداب ونشر القصص في الصحف والمجلات. ومن هؤلاء إبراهيم المويلحي(1844 -1906 ) شيخ الكتابة العربية في عصره ومن دعاة التعلم والثقافة وتربية ملكة الإنشاء وبه تأثر طه حسين. ومن انجازات المويلحي مساهمته في إنشاء مطبعة وجمعية باسم المعارف وجريدة باسم نزاهة الأفكار. ولكن أهم أثر فني تركه في مجال كتابة القصة يتمثل في سلسلة قصصه المسماة (مرآة العالم) وبدأ بنشرها على صفحات جريدة مصباح الشرق عام 1898 كما أن ولده محمد المويلحي( 1858 ـ1930 ) كانت له أيضا سلسلة مشابهة من القصص نشرها تحت عنوان(فترة من الزمان) أو(حديث عيسى بن هشام).
ومما يميز قصص إبراهيم المويلحي بناؤه إياها على القاعدة اللاواقعية، سائرا على تقاليد السرد القديم في بناء عناصر القصة من حدث وشخصية وزمان ومكان وحوار. أما السارد فله صور مختلفة كحكاء ومؤرخ ومفكر، موظفا أساليب التكرار والأحلام والتوالي. والنوع القصصي الذي اتخذه المويلحي في كتابة قصته هو المقامة، جاعلا بطلها واحد هو موسى بن عصام.
وتفتتح كل قصة من قصص (مرآة العالم) بحكاء يقول:( حدثنا موسى بن عصام، قال: ..) فالحكاء هو المخبر عن سارد يتولى سرد قصته بضمير الأنا. وبسبب ما تولد في نفسه من حب للمعرفة، رحل يبحث عن الأخبار وواجه العثرات وغامر في طريق شاق. وما أن يلتقي بالشيخ المهيب حتى تتغير وتيرة السرد وتتصاعد الحبكة اعتمادا على القاعدة اللاواقعية، المتمثلة بالشيخ ذي القدرات الخارقة الذي يعرف الماضي وآلاتي. ويستمر الشيخ في مرافقة السارد الذي تزداد دهشته، كلما فسر له الشيخ أمرا عجيبا يصادفه في صور الناس وتصرفاتهم أو يستغرب مما يشاهده من عوالم مستحيلة يدخلها فتبهره بسحرها. ويجري بينه وبين الشيخ حوار فكري فيه تناصات مع آيات قرآنية( انظر فبصرك اليوم حديد، فنظرت ويا هول ما نظرت ، نظرت قوما حافين يزاول عليهم ثوب كطيف الشمس يلمع لمعان الآل وقد قبض كل منهم على شعاع من ذلك الطيف .. ثم أعدت النظر فإذا أنا أرى شخصا فخما عظيم القامة تتبعه الناس من جميع الطبقات وهم متكاتفون على لثم حذائه ولمس طرف من ردائه فسألت الشيخ من هذا العظيم؟ فقال: هذا هو الباطل..) ويستمر السارد في رحلة المعرفة مشاهدا ما لم تره عين انسان من قبل، مكررا الفعل رأيت( فرأيت ويا أقبح ما رأيت شخصين على أكتافهما سيوف متقاطعة ولكنها غير قاطعة ونجوم لامعة لكنها غير طالعة) أو قوله( فرأيت منظرا يستوقف النظر ويستجمع العبر رأيت رجلا في حظيرة في حديقة صغيرة يخطر جيئة وذهابا وقد امسك في يده كتابا وهو كاسف البال ظاهر البلبال وبهذا التكرار تتطور الأحداث وتتغير وتيرة القص.
ويكرر المؤلف أيضا عبارة( قال موسى: ..) في إشارة إلى ان المخبر بالقول هنا هو الحكاء اما القائم بالفعل فهو السارد موسى بن عصام. وبالوصل والفصل تتصاعد الحبكة وتتناسل الحكايات داخل هذه القصة مثل حكاية الزائر والغني والبخيل وحكاية الحكيم والغني والشيخ وحكاية صاحب البيت والرهط الثلاثة. وتتعدد الشخصيات الثانوية وتتخلل كل حكاية أبيات من الشعر مع استعمال السجع أحيانا( لقد علمت مما قصصت عليك ان الدهر قد جمع في هذا العالم أفانين العجائب وفرق على أهله بتاريخ المصائب) وأحيانا يستعمل السارد عبارات باللهجة الدارجة.
وتتحول الأحداث اللاواقعية تدريجيا إلى واقعية بفضل تفسيرات الشيخ المنطقية وتحليلاته الواقعية أما توظيف القاص لأحداث عصره ونقده السياسي للمضاربات والرهان التي كانت تمارس آنذاك بكثرة بحثا عن الربح السريع وكذلك ذكره لمدن معينة مثل القاهرة وأم درمان ومخترعات جديدة مثل القطار، فإنها كلها أدت دورا في توجيه لا واقعية القص نحو الواقعية وعلى طريقة القاص القديم نفسها في التعليم والتوجيه. فحين رأى السارد القطار تعجب كيف( اختص الجنس الأبيض نفسه بالمكان الواسع والموقع الرحب فيركب الفرد منهم أو الاثنان في مركبة على حدتها عريضة الجانب متسعة الأركان.. وتذكرت في هذه الحال صاحبي تلك السيوف التي لا تقطع والنجوم التي لا تطلع) ولا يخفى ما في هذا المقطع من انتقاد للحال المتردي الذي وصل إليه أبناء البلد والأسلوب العنصري الذي به يتعامل المستعمر الانجليزي معهم.
ولعل أهم ما وظفه المويلحي في كتابة القصة العربية هو استعمال أسلوب التوالي في الربط بين المقامات. ومن خلاله وجَّه انتباه القارئ الى ما سبق من قصص نشرت في الجريدة تذكيرا له وتشويقا أيضا.
ومن المهم الإشارة إلى أن الابن محمد المويلحي استطاع في سلسلة قصصه المسماة (فترة من الزمان) أو(حديث عيسى بن هشام) المنشورة عام 1907 أن يطور أسلوب التوالي الذي اتبعه أصحاب المقامات فطوّل السرد ليكون روائيا، فكان مجموع قصصه عبارة عن رواية واحدة. وعلى الرغم من أنه سار على نهج والده من ناحية القاعدة والتقاليد السردية، فاستعمل السجع وكرر الفعل (رأيت) أحيانا وادخل بعض الأشعار أيضا، فانه خالفه في مناح معينة منها:
1ــ أنه لم يُظهر الحكاء سوى مرة واحدة في بداية القصة قائلا:( حدثنا عيسى بن هشام قال:..) ووظيفته تعليمية وهي تقديم العبرة والعظة، ووسيلته الى ذلك تتمثل في الخيال( هذا الحديث ـ عيسى بن هشام ـ وإن كان في نفسه موضوعا في نسق التخييل والتصوير فهو حقيقة متبرجة في ثوب الخيال إلا انه خيال مسبوك في قالب الحقيقة.).
2ــ أن الموضوع واحد في القصص كلها، وبالاعتماد على القاعدة اللاواقعية، فبينما يسير السارد لوحده في المقبرة، ينهض الباشا أحمد المنيكلي ناظر الجهادية المصرية من قبره، ويسأله الباشا عن اسمه وعمره ويطلب منه رداءه ثم يصحبه إلى المدينة ليبحث معه عن بيته وولي نعتمه الداوري في رحلة طويلة محفوفة بكثير من المصادفات والمغامرات. وفي أثناء هذه الرحلة تظهر شخصيات ثانوية كثيرة كالمكاري وشرطي البوليس والقاضي والمحامي والصديق وغيرها وبحسب ما يضمِّنه المؤلف في قصته من حكايات مختلفة.
3ــ أنه جعل السارد الذاتي يتولى سرد الأحداث مشاركا البطولة فيها مع شخصية أخرى حتى نهاية القصة( وبينما أنا في هذه المواعظ والعبر وتلك الخواطر والفكر أتأمل في عجائب الحدثان وأعجب من تقلب الزمان.. إذا برجة عنيفة من خلفي كادت تقضي بحتفي فالتفت التفاتة الخائف المذعور فرأيت قبرا انشق من تلك القبور وقد خرج منه رجل طويل القامة عظيم الهامة عليه بهاء المهابة والجلالة ورواء الشرف والنبالة فصعقت من هول الوهل والوجل.. ولما أفقت من غشيتي وانتبهت من دهشتي أخذت أسرع في مشيتي فسمعته يناديني وأبصرته يدانيني..).
4ــ استعمال السارد طريقة الاستبطان الداخلي على هذه الشاكلة( قلت في نفسي: حقا أن الرجل لقريب العهد بسؤال الملكين .. اللهم أنقذني من الضيق) وتتعقد الحبكة حين يصطدم الباشا بما صار بعد موته من أحداث، ويعرف أن كل شيء قد تغير، فكلامه المنمق وبلاغته الرفيعة لم يعد يستعملها أحد والانتصارات في الحروب والوقائع ـــ التي خاضها الجيش العثماني الذي كان الباشا أحد ضباطه ــ لم يعد يفاخر بها أحد. فلقد تغيرت القوانين والانظمة وطبقات الناس أيضا. فيعتري الباشا اليأس وكلما تألم وانفعل، سعى السارد إلى تخفيف ألمه وتهوين أمر الصدمة عليه. ولا تنفرج الحبكة إلا بعد أن يسلّم الباشا للأمر الواقع ويعرف أن دولته العتيدة قد أفلت إلى غير رجعة. وبهذا تكون غاية المويلحي الابن من هذه القصة الطويلة هو الترحم على عصر كانت فيه السلطة السياسية والاجتماعية بيد الدولة العثمانية وغدت الآن بيد المستعمر الاجنبي.










