المثنى / كريم ستار
لا تزال مدينة آوروك (الوركاء) في محافظة المثنى، إحدى أقدم مدن الحضارة السومرية، تكشف طبقات تاريخها المطمورة رغم مرور أكثر من مئة عام على بدء أعمال التنقيب فيها. فعلى الرغم من أهميتها البالغة في تاريخ بلاد الرافدين، لم يُكشف حتى اليوم سوى 15% فقط من مساحتها الكاملة، بحسب تقديرات البعثة الألمانية التي تُعد الأكثر عملاً في الموقع عبر العقود الماضية.
وعلى امتداد مساحتها الواسعة، لا تمثل المناطق المنقّبة سوى مساحة محدودة جدًا من مدينة يُقدَّر أنها كانت مركزًا لمجتمع متطور خلال الألفين الرابع والخامس قبل الميلاد. ويقول مدير الآثار والتراث في المثنى، سلوان الأحمر، إن ما جرى الكشف عنه حتى الآن لا يعادل سوى «القشرة السطحية» للموقع، مضيفًا: «أغلب المدن الأثرية في العراق تحتوي على زقورة واحدة، بينما تنفرد آوروك بوجود زقورتين؛ الأولى زقورة إيانا التابعة لمعبد الإلهة عشتار، والثانية زقورة آنو القائمة فوق المعبد الأبيض. وهذا التنوع يدل على أن المدينة كانت مركزًا دينيًا مركبًا تطوّر عبر آلاف السنين».
ويؤكد الأحمر أن استمرار عمليات التنقيب بالوتيرة الحالية قد يستغرق عقودًا طويلة، مشيرًا إلى أن طبقات المدينة معقدة، وتضم مراحل عمرانية متراكمة تمتد لآلاف السنين.
النتائج التي تحققها الفرق الأثرية أعادت تسليط الضوء على آوروك باعتبارها مهد الكتابة والعجلة، وموقعًا شهد أولى مظاهر التحضر الإنساني. فمنذ بدء الحفريات الألمانية قبل مئة عام، تكشّفت الطبقات الأولى للمدينة، لتظهر أقدم المقاطع المبكرة للكتابة السومرية التي أرّخت لنشوء الإدارة والتنظيم في العراق القديم.
وفي هذا السياق، يقول سلوان الأحمر: «إن اكتشاف الكتابة والعجلة في آوروك يعد من أهم المنجزات في تاريخ العالم. هذان الاكتشافان مرّا بثلاث مراحل تطورية واضحة مهدت لظهور أنظمة اقتصادية وإدارية معقدة».
وفي الأثناء أعلن مجلس محافظة المثنى عن العثور على مدينة صناعية تحت آوروك يعود عمرها إلى نحو 5000 عام. وقال عضو المجلس عقيل العيساوي: «البعثة الألمانية المكلفة بعمليات التنقيب في مدينة الوركاء الأثرية عثرت على مدينة صناعية تحت أنقاض المدينة يعود عمرها ما يقارب 5000 عام بحسب البعثة المختصة، والعمل مستمر لكشف ما تتضمن تلك المدينة». وأشار العيساوي إلى أن «محافظة المثنى يوجد فيها كنوز كبيرة من الحضارة عمرها آلاف السنين، ولهذا هناك اهتمام بهذا الجانب من قبل الحكومة المحلية وكذلك الحكومة المركزية من أجل تفعيل قطاع السياحة في المحافظة للارتقاء بواقعها الاقتصادي».
وتشير الدراسات إلى أن النماذج الأولى للعجلة، التي عُثر عليها في آوروك، كانت مصنوعة من الخشب الصلب، قبل أن تتطور لتصبح جزءًا أساسيًا في النقل والزراعة والعربات الحربية. أما الكتابة، فقد بدأت بصور بسيطة ثم تحولت لاحقًا إلى العلامات المسمارية التي شكّلت الأساس للكتابات البابلية والآشورية.
وفي عام 2016، أدرجت منظمة اليونسكو آوروك ضمن لائحة التراث العالمي، تأكيدًا على الدور الكبير الذي لعبته في نشوء الحضارة. فالمدينة لم تكن مجرد تجمع سكني، بل مركزًا دينيًا وسياسيًا وثقافيًا معقدًا ارتبط اسمه بواحدة من أبرز الشخصيات في تاريخ الأدب الإنساني، «الملك كلكامش»، بطل الملحمة السومرية الشهيرة.
ويشرح المتخصص في التاريخ القديم، مؤيد فزاع، أهمية هذه المعابد قائلاً: «ظهرت في آوروك أول عمارة دينية منظمة في تاريخ وادي الرافدين، وكانت معابد إنانا وآنو مؤسسات سياسية واقتصادية تدير شؤون المدينة. ومعها ظهرت فنون النحت والفخار في صور متطورة».
كما يؤكد خبير الآثار رائد العوادي أن اكتشاف الطبقات السفلية للمعابد قد يغيّر فهم العالم لطبيعة نشوء السلطة، قائلاً: «لدينا مؤشرات أولية على وجود مراحل معمارية أقدم من تلك التي نعرفها حاليًا. إذا ما ثبتت هذه الفرضيات، فسنكون أمام إعادة كتابة للتسلسل الحضاري في جنوب العراق».
ورغم كل الاكتشافات الكبرى، ما تزال آوروك، بحسب الخبراء، تبوح بنصف الحقيقة فقط؛ فـ85% من إرثها الحضاري ما يزال تحت الأرض، بانتظار أدوات أكثر تطورًا وجهود علمية تتناسب مع قيمة المدينة. ويقول باحثون إن ما تم اكتشافه حتى الآن من زقورات ومعابد وبواكير الكتابة يؤكد أن الجزء غير المكتشف قد يضم موادًا قادرة على إعادة كتابة تاريخ وادي الرافدين من جديد.










