TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

نشر في: 2 ديسمبر, 2025: 12:02 ص

حسن الجنابي

تتجه جهود وزارات الخارجية في الدول المتقدمة عادةً إلى استشراف المستقبل والتعامل مع تحدياته، بقدر اهتمامها بإدارة الأزمات الراهنة المرتبطة بالأمن والسلم والاستقرار. فالعالم الذي تشكّل بعد انحسار الاستعمار المباشر، وطيّ صفحة الحرب الباردة، وما نتج من تفكك الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرها، شهد تحولات كبيرة رسمت أولويات جديدة للنظام الدولي، حتى في ظل الأحادية القطبية التي أفرزتها تلك المرحلة.
رافق انتهاء الأنظمة الاستعمارية بروز آمال واسعة لدى الشعوب بإمكانية بناء عالم تعيش فيه الأمم على قدم المساواة، وتتحقق فيه التنمية والرفاهية للجميع. لكن الواقع كشف أن الخطاب الغربي حول المساواة وحقوق الإنسان لم يكن كافياً لمحو الإرث الاستعماري، أو لخلق فرص متوازنة لجميع الدول. كما أن الاستقلال السياسي لم يكن كافياً، بحد ذاته، لتمكين الدول الفتية من تعويض عقود من الاستغلال الاقتصادي والاستعباد.
ومع التسارع التكنولوجي، اتسعت فجوة التنمية بين الدول، وظهرت أنماط جديدة من السيطرة الاقتصادية والمعرفية والمعلوماتية، استُعيض فيها عن السيطرة العسكرية المباشرة. تزامن ذلك مع تزايد عمليات التصنيع غير المنضبطة، وإهمال المحددات البيئية التي تشكل خط التوازن بين النشاط البشري والنظام الطبيعي. نتج عن ذلك تراكم كبير للغازات الدفيئة في الجو، أدى تدريجياً إلى ارتفاع درجات حرارة سطح الأرض، وإلى ظهور موجات متطرفة من الجفاف والفيضانات والحرارة.
من الثابت بأن التغير المناخي ليس حدثاً طارئاً، بل نتيجة مباشرة للنشاط الصناعي البشري، ولأنماط الإنتاج التي تجاهلت قدرة الطبيعة على التجدد.
وفي مواجهة هذه التحديات، أطلقت الأمم المتحدة في «قمة الأرض» في ريو دي جانيرو ثلاث اتفاقيات محورية: الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، واتفاقية التنوع الإحيائي، واتفاقية مكافحة التصحر. وتشكل هذه الاتفاقيات إطاراً سيادياً عالمياً لضمان استدامة الحياة البشرية وسائر الكائنات التي تعتمد على توازن موارد كوكب الأرض.
انضم العراق إلى الاتفاقيات الثلاث، وهو انضمام ذو قيمة رمزية على المستوى الدولي، لكنه، بسبب محدودية قدراته الدبلوماسية والتنموية، ولم يتمكن بالنتيجة من الالتزام الأمثل بمضامينها أو التأثير الفعّال في مساراتها. فبعض هذه الاتفاقيات يحمل طابعاً إلزامياً، مثل اتفاقية مكافحة التصحر الملزمة قانوناً للدول الأعضاء. غير أن العمل الدبلوماسي العراقي لم يتعامل مع هذه الالتزامات بوصفها عبئاً سيادياً يتطلب إدارة نشطة وكفوءة، بل بدت هذه الالتزامات في كثير من الأحيان خارج نطاق الأولوية في وزارة الخارجية.
ومن جانب آخر، يتردد على ألسنة العديد من المسؤولين و"الخبراء" خطاب واسع حول أثر التغير المناخي في العراق، وغالباً ما يُستخدم هذا الخطاب للتغطية على مشكلات تنموية داخلية أعمق. فمع أن العراق يتأثر فعلاً بتغير المناخ، شأنه شأن دول المنطقة، فإن الوقائع تشير إلى أن السياسات والممارسات المحلية، كتجريف الأراضي، وتدمير البساتين، والتوسع العشوائي، وإدارة الموارد الطبيعية، والتلوث، وغيرها، كان لها تأثير أشد بعشرات المرات من التأثيرات المناخية العالمية. وتفاقمت هذه الممارسات بعد 2003، خاصة حين تراكمت فوضى التخطيط العمراني، وتدهور الخدمات، والهجمات الإرهابية، والمشاريع الفاسدة. وقد سبق ذلك كارثة تجفيف الأهوار، التي أدت إلى تدمير بيئة مستقرة منذ آلاف السنين. ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، ارتفعت درجات الحرارة في وسط وجنوب العراق بما لا يقل عن درجتين مئويتين مقارنة بمعدلاتها في القرن الماضي.
لقد أفرزت الظروف التي مرّ بها العراق فراغاً مؤسسياً كبيراً، انعكس على قدرة الحكومات المتعاقبة على تنفيذ القوانين البيئية، وحماية الموارد الطبيعية، والوفاء بالتزاماتها الدولية. فقد غابت سياسات التكيّف الضرورية مع آثار التغير المناخي، وفُتحت الأبواب لمشاريع تنموية مخالفة للمعايير البيئية، وصار الخطاب حكومي حول التغير المناخي أقرب إلى "الاستعراض" منه إلى التخطيط العلمي.
ورغم أن الاتفاقيات البيئية الدولية تشكل التزامات سيادية، فقد جرى التعامل معها داخل العراق بوصفها ملفات تنفيذية تابعة لوزارة البيئة، وهي وزارة ذات صبغة خدمية، وليست جهة سيادية مكلفة بتحديد المواقف الدبلوماسية للدولة. أما وزارة الخارجية، التي يفترض أن تكون الجهة القائدة لهذا الملف، فقد اكتفت لفترة طويلة بدور ناقل المراسلات إلى الوزارات "القطاعية"، دون تقديم موقف سياسي أو سيادي واضح.
وعندما تولّيتُ رئاسة دائرة المنظمات والمؤتمرات الدولية عام 2019، وجدت أن هذا النهج يقوّض الدور الدبلوماسي للعراق، فعملت على إعادة تشكيل آلية اتخاذ القرار بحيث تنطلق المواقف أولاً من الخارجية، ثم يُستأنس بالرأي الفني للوزارات المختصة عند الحاجة. وقد أثار ذلك دهشة بعض الموظفين ممن اعتادوا النهج البيروقراطي التقليدي القائم على الاكتفاء بإحالة الملفات الى "الجهات القطاعية"، دون تكريس دور وزارة الخارجية بصفتها الجهة المسؤولة سيادياً في المحافل الدولية.
إن التغير المناخي، رغم خطورته، ليس التهديد الأخطر الذي يواجه العراق، بل هو عامل مفاقِم لمشكلات داخلية ناجمة عن ضعف الخدمات ونقص المياه الصالحة للشرب وتدهور الزراعة، وتراجع البنية الصحية والتعليمية، واتساع الفقر، وتزايد التلوث. فالمشكلة الأساسية تكمن في إدارة مرافق الدولة الأخرى، وليس فقط في المناخ. لذلك يرتبط الموقف من التغير المناخي عضوياً بالموقف من التنمية الداخلية، وبالقدرة على بناء سياسات رشيدة تستند إلى مبادئ الاستدامة.
من المفترض أن تقود وزارة الخارجية كذلك عملية إعداد التقارير الدورية التي يرفعها العراق إلى سكرتاريات الاتفاقيات الدولية. لكن هذه المهمة تُدار غالباً خارج إطار الوزارة، ويتم تنفيذها مباشرة بين الوزارات القطاعية وبعض وكالات الأمم المتحدة، التي تكتب التقارير وتضع شعاراتها عليها، في غياب شبه تام لشعار وزارة الخارجية، وهو أمر غير صحيح من الناحية السيادية، ويقصي العراق عن موقعه الطبيعي في إدارة التزاماته الدولية. إن تعزيز دور وزارة الخارجية في هذا الملف ليس مسألة بروتوكولية، بل هو ضرورة استراتيجية تضمن انسجام البرامج الحكومية مع الالتزامات الدولية، وتكرّس ما يُعرف اليوم بـ«دبلوماسية المناخ»، وهي مقاربة تعتمدها دول العالم لصياغة سياساتها التنموية والبيئية بشكل مترابط. ومن خلال هذا الدور، يمكن للعراق أن يتحول من موقع المتلقي السلبي إلى مشارك فعلي في رسم السياسات الدولية المتعلقة بالمناخ، وبما يعزز مكانته، ويحمي مصالحه، ويجعل التنمية الوطنية جزءاً من منظومة عالمية أوسع، بدلاً من أن تكون منفصلة أو متعارضة معها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. د.عبد الجليل البدري

    منذ 2 أسابيع

    "أقدّر ما طرحه د. حسن الجنابي حول دبلوماسية المناخ، لكن يبقى السؤال: أين كان هذا الدور حين كنتم وزيرًا وسفيرًا؟ ولماذا لم تُطرح مشاريع استراتيجية كإحياء بحيرة الثرثار بطاقة 85 مليار م³ لتلبية حاجة العراق المائية؟"

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram