متابعة/المدى
تتزايد المؤشرات على أن إيران تتعامل بحذر شديد مع المرحلة السياسية الجديدة في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، إذ يبرز من مجموعة تصريحات رسمية وإعلامية أن طهران لا تتعجل في استئناف العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، في وقت تؤكد فيه الحكومة السورية الجديدة أنها تسعى إلى “علاقات متوازنة” تأخذ رغبة الشعب بالاعتبار، بينما يتصاعد الغضب الشعبي السوري من الدور الإيراني خلال سنوات الحرب.
ومع تواصل الغموض المحيط بالشكل المقبل للعلاقات بين البلدين، تبرز خطط إيرانية تدريجية تستند إلى مراحل مراقبة ومفاوضات واتصالات غير مباشرة قبل الانتقال إلى أي تحرك رسمي، فيما تبدي دمشق انفتاحاً مشروطاً لا يبدو أنه سيُترجم سريعًا على أرض الواقع.
إيران: لا علاقات دبلوماسية قائمة
أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، أن إيران لا تربطها أي علاقات دبلوماسية مع الحكومة السورية الحالية، مضيفًا أن طهران “تراقب التطورات في سوريا بدقة دون استعجال”. جاء ذلك في مقابلة تلفزيونية مع برنامج “مع موسى الفرعي” في سلطنة عمان.
وأوضح عراقجي أن بلاده “لا تشعر بأي ضغط لإعادة العلاقات في الوقت الراهن”، مشيرًا إلى أن دراسة الأوضاع الميدانية والسياسية تأتي في مقدمة الأولويات قبل اتخاذ أي خطوة.
وتأتي تصريحات عراقجي على الرغم من رسائل سياسية طرحتها طهران في الأسابيع الماضية، تضمنت تأكيدات بعدم التدخل في شؤون سوريا، والتحذير من التحديات التي تواجه البلاد. كما لفت عراقجي سابقًا إلى أن “المناطق التي احتلتها إسرائيل في سوريا أكبر من غزة”، في معرض حديثه عن تأثيرات الحرب الإقليمية على الميدان السوري.
مقال تركي يسلّط الضوء على “خطة ثلاثية”
في السياق ذاته، رأى الكاتب والباحث المتخصص في الشؤون الإيرانية رمضان بورصة، أن طهران لا تتجه نحو أي تحرك متسرّع تجاه دمشق، مشيرًا إلى أن هناك خطة ثلاثية الخطوات تعتمد على:
المراقبة – الاتصالات غير المباشرة – اللقاءات الدبلوماسية لاحقًا.
ووفق مقاله المنشور في موقع الجزيرة نت، تقوم المرحلة الأولى على متابعة التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية في سوريا، ثم إجراء تنسيق مع دول ترتبط بعلاقات جيدة مع الحكومة السورية الجديدة مثل تركيا وقطر. أما المرحلة الثانية فتتمثل في الاستعانة بوسطاء للتواصل غير المباشر مع دمشق، على أن تتوج المرحلة الثالثة بـ لقاءات رسمية تبدأ بين وزيري الخارجية في دولة ثالثة، تمهيدًا لفتح قناة دبلوماسية محدودة عبر تعيين قائم بالأعمال. لكن بورصة، وغيره من مراقبين، يشيرون إلى أن تنفيذ هذه الخطة قد يتأخر نظرًا لتعقيدات الوضعين السوري والإيراني.
سقوط الأسد التحول الأكبر في المعادلة
تعود بداية التحول إلى السقوط المفاجئ وغير المتوقع لبشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وهو تطور وصفه محللون بأنه “ضربة قاسية لعقيدة محور المقاومة” التي تعدّ سوريا إحدى ركائزها.
وأثار هذا السقوط خلافًا في السردية الإيرانية بين تصريحات صلبة صدرت عن المرشد علي خامنئي وقادة في الحرس الثوري، وتضمّنت إشارات “أزعجت دمشق”، وبين رسائل أكثر مرونة صادرة عن وزارة الخارجية.
ووفق مصادر سياسية سورية، فقد ردّ وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في حينه بأن التصريحات الإيرانية آنذاك “تشكل تدخلاً في الشأن الداخلي السوري”، فيما غضت الحكومة السورية الجديدة الطرف عن رسائل الود التي أرسلتها الخارجية الإيرانية.
وفي مؤشر على رغبة طهران بإبقاء قنوات التواصل مفتوحة، عينت إيران الدبلوماسي المخضرم محمد رضا رؤوف شيباني ممثلًا خاصًا لها في سوريا، بعد شهر من مغادرة الأسد للعاصمة. ويمتلك شيباني خبرة واسعة في ملفات المنطقة، إذ تولى منصب سفير إيران في لبنان وسوريا وتونس وليبيا، إضافة إلى عمله مساعدًا لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وممثلاً خاصًا لعراقجي لشؤون غرب آسيا. خطوة التعيين لم تُفهم في دمشق على أنها بداية عودة العلاقات، بل كإشارة إيرانية إلى أن طهران ترغب في البقاء ضمن المشهد من دون اتخاذ خطوات رسمية مباشرة.
دمشق: العلاقات المتوازنة شرط أساسي
من جهتها، تبدي الحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع انفتاحًا حذرًا تجاه إعادة العلاقات مع إيران، لكنها تشدد على أن ذلك يجب أن يراعي الرأي العام السوري.
وقال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إن دمشق “تهدف لإعادة بناء العلاقات مع روسيا وإيران”، لكن مع التحفظ على تصريحات إيرانية “أثارت قلق السوريين”.
أما الرئيس الشرع فجدد التأكيد على أن سوريا “تريد علاقات متوازنة مع الجميع”، مشيرًا إلى أن الشعب السوري يحمل “جراحًا كبيرة” من فترة حكم الأسد ومن ممارسات القوى الأجنبية التي تدخلت في البلاد.
غضب شعبي واسع.. تحدٍ إضافي أمام طهران
خلال زيارات ميدانية أجراها الصحفي رمضان بورصة إلى دمشق بعد أسبوعين من سقوط الأسد، تبين أن الغضب الشعبي تجاه إيران أكبر من الغضب تجاه روسيا، وفق شهادات مسؤولين ومواطنين سوريين.
ويرجع كثيرون ذلك إلى أن طهران كانت “المدافع الأكثر تشددًا” عن نظام الأسد، وأنها تبنت مشاريع توسعية داخل سوريا أثارت مخاوف السكان. ويقول الصحفي السوري حمزة خضر إن الحكومة الجديدة “تمتنع عن فتح العلاقات فورًا” لأن طهران دعمت الأسد بلا تحفظ، بينما تسعى دمشق اليوم إلى بناء علاقات طبيعية مع دول الجوار بعيدًا عن الاصطفافات السابقة.
ويرى خضر أن العلاقة المستقبلية بين البلدين “قد تشبه علاقة إيران مع تركيا أو دول الخليج”، أي علاقة محدودة غير استراتيجية.
مواقف أخرى: العلاقات غير مرجّحة قريبًا
يرى باحثون آخرون أن استئناف العلاقات الرسمية لا يبدو قريبًا.
ويقول الدكتور سرحان أفاجان، رئيس مركز الدراسات الإيرانية، إن دمشق “تتبنى موقفًا متحفظًا جدًا” تجاه إيران، بينما تشير مواقف الصحفي السوري خالد عبده إلى أن “أي تقارب دون قبول شعبي سيكون شبه مستحيل”. ويضيف عبده أن العلاقات قد تعود “عبر قنوات استخباراتية أو وسطاء”، لكن العلاقة الوثيقة التي كانت في عهد الأسد انتهت عمليًا.
شهدت الأسابيع اللاحقة لسقوط النظام السابق إعادة انتشار واسعة للقوات السورية ودمج فصائل محلية في الأجهزة الأمنية، ودخول بعثات أممية لتثبيت خطوط وقف إطلاق النار، مما جعل المرحلة الانتقالية “الأكثر حساسية منذ 2011”. أعادت موسكو سريعًا فتح قنواتها السياسية والعسكرية، وأرسلت وفودًا رفيعة للقاء الرئيس الشرع، بينما لم تقم إيران بخطوات مشابهة، ما أوجد فجوة واضحة في النفوذ.
ويرى اقتصاديون في دمشق أن إيران ستكون مطالَبة لاحقًا بتسوية ملفات مالية ضخمة، تشمل ديونًا بمليارات الدولارات واتفاقيات اقتصادية وقّعت خلال الحرب، بعضها يتعلق بمرافئ وقطاعات طاقة واتصالات.
كما تتعرض سوريا لضغوط دولية للالتزام بمعايير شفافية وإصلاحات سياسية مقابل رفع تدريجي للعقوبات، وهو ما يجعل أي تحالفات جديدة بحاجة إلى توازنات دقيقة.
يرى مسؤولون عرب أن سوريا الجديدة “تتحرك نحو محور وسطي” مع الانفتاح على الخليج وتركيا، ما يقلل من مساحة المناورة لإيران.
خطة إيران الثلاثية.. المرحلة الأولى
تركز إيران في هذه المرحلة على جمع المعلومات عبر شبكاتها السياسية والأمنية، مع التواصل مع تركيا وقطر وروسيا. وتشير مصادر عربية إلى أن طهران تتريث أيضًا بانتظار اتضاح اتجاهات السياسة السورية تجاه لبنان والعراق، وهما مجالان مرتبطان بمصالح إيرانية مباشرة.
المرحلة الثانية
يُرجح أن تقوم قطر بدور الوسيط الأكثر قبولاً، بينما قد تلعب تركيا دورًا في الملفات الأمنية. وتشمل هذه المرحلة بحث ملفات حساسة مثل الاتفاقيات الاقتصادية وملف الطاقة والوجود العسكري.
المرحلة الثالثة
لا يُتوقع أن تتخذ هذه المرحلة شكلًا سريعًا، بسبب الضغوط الشعبية السورية، والمرحلة الانتقالية، والضبابية في السياسة الداخلية الإيرانية نفسها، خصوصًا بعد التغييرات داخل الحرس الثوري في الأشهر الأخيرة.
تُظهر المعطيات أن العلاقة السورية ـ الإيرانية تمر بأعمق اختبار منذ أربعة عقود. فدمشق الجديدة لا تضع إعادة العلاقات ضمن أولوياتها، وتركز على تثبيت الأمن وإعادة الإعمار ورفع العقوبات، بينما تراهن إيران على خطة تدريجية تضمن لها البقاء ضمن المشهد السوري دون خسارة نفوذها بالكامل.
لكن الغضب الشعبي السوري، والضغوط الدولية، وتغير التحالفات الإقليمية، وتعقيدات الوضع الإيراني، كلها عوامل تجعل هذا المسار بطيئًا، وربما طويلًا قبل أن تأخذ العلاقات شكلًا مستقرًا وواضحًا.










