طالب عبد العزيز
لم يأت الشتاء بعد، هذا خريف طويل، رأسه في الصيف؛ وذيله في اليبس والملح، والبصرة امرأة أبعد ما تكون صورةً عن هذا كله، كانت مشتىً ولم تعد، وكانت ماءً ونخلاً ولم تعد، وكانت طيبة خلقٍ وجيرة أهل ولم تعد، هناك من ما زال يمزقَّ ثوبَ عرسها، ويدوّى بطبول الرعب والفزع في رأسها، المدينة التي اعتادت طبول الخشب تقرعها بأصابع من لطف وشجن وصفصاف، هذه المرأةُ تبحث عمّن يأخذ بيدها الى حدائق النور، ويحفظ عنها صورتها في الأثر والتاريخ، فهي التي قال عنها أحدهم، وهو خليفة راشد:" لو ضلّت البصرة لدفعت الكوفة ثمناً لمن يدلني عليها". هي التي نخشى عليها من الفقد والضياع.
لكنَّ المدينة مثل أيِّ حاضرة في التاريخ كانت وما زالت إغراءً لكلِّ فارس وراجل، وغنيٍّ وفقير،عرضةً لهجرات سكان المدن المجاورة لها، الذين دخلوها على جمالهم من الصحراء، أو جاؤوها بقواربهم من البحر والماء، حتى إذا استقروا فيها؛ صارت لهم الامَّ، وكانوا لها الأبناء، اطمأنوا على حياتهم فيها، وتخلقوا بأخلاق أهليها، ومع الشهور والسنين تخلصوا من كلِّ عنتٍ وتشدد، وكلِّ تعصّبٍ وبغضاء، فكان منهم الاديبُ والوجيه، والمفكرُ، واللغوي، والتاجر...، لم تشعرهم بدونيّة وغربة، ولم تنقصهم في حظ ونصيب، ولم تستعدِ أحداً على أحد منهم، حتى صاروا ينسبون أنفسهم لها، كيف لا وقد تخلص بعضهم من سلالته التي انحدر عنها، ومن نسبه الذي جاء منه، في جرأةٍ نادرة على التخلص من ماضٍ له، كأنه السبّة والشتيمة.
مؤسفٌ؛ أنْ يشاعَ بأنَّ كلَّ من جاء البصرة خلال العقود الأخيرة إنما جاءها مطلوباً، هارباً من فعل شائنٍ ارتكبه في مدينته الام، أو أنَّه دخلها حفاظاً على حياته وطمعاً بمستقبل آمن لأبنائه، وهذا ما يتداوله الكثير، لكننا،لا نجدُ في فعل كهذا ما يشينُ فاعله، فقضية كهذه لا تخالف الطبيعة البشرية، لأنَّ الانسان يهرب من الخطر، ويبحث عن الستر والطمانينة، وله الحق في ذلك، فهذه أرض الله تتسع لمن أخطأ أو جار الزمان عليه، وكلنا سمع القصص والروايات التي تحاك في هذه وتلك، لكنَّ الغريب العجيب أنْ تتحول المدينة الى ساحة احتراب ثانيةً، فالذي هرب من مدينته واستقر المقام به في البصرة لم يخلص مما كان له، فصاحب الثأر يتعقبه، وروح الثأر والعداء مازالت ترافقه، لأنّ من عاش طويلاً في مدينة طابع أهلها السطو والتهديد والثأر لا قدره له في التخلص من ذلك كله في ضحى يوم وليلة، وهذا طبعٌ لا تطبّع، وأنَّ السكن الجديد والألفة والجيرة لم تغير من مخاوفه وتوجسه عند كل عارض وطارئ، فهو يتنفس بغضاءه سرّا، وما ينطوي عليه لا يتغير بتغير الناس والمكان، فالمكث الطويل في بغداد لم يبغدد إلا القليل، ولم يغييّ من سلوك وطبيعة الكثير من الذين جاؤوها من الجنوب.
قد ينظر الى ما يحدث بين القبائل التي استطونت بغداد والبصرة من خلافات ونزاعات على أنّه أمرٌ طبيعي، فالناس أبناء ما جهلوا، وهذه نتاج النظام الاجتماعي المتخلف، والأداء السياسي السيء، لكنَّ المشكلة الأكبر تكمن في مواجهة ومقارعة سكان المدينة لهؤلاء، وفي استخدامهم لذات الآلية التي يتعامل فيها هؤلاء معهم، وبمعنى آخر فأنَّهم باتوا يستعملون أدوات الاخر القادم المختلف، فارتدوا العُقُلَ واليشامغ المرقطة، والعباءات النجفية السوداء، المنسوجة بخيوط الذهب، وقصدوا النسابةَ والمؤرخين، وبحثوا في بطون الكتب عن أسلافهم وأصلابهم، وتفاخر من تفاخر، واستعد من استعد، فجمعوا البنادق، وركنوا العصي خلف الأبواب، ولم يتوقف الامر عند حدٍّ بعينه؛ فقد انتسب العديد منهم الى قبائل وعشائر غير بصرية، عرفت بالجرأة والعدوانية، ولم يعد البصري مجرداً من اسمه إنما ملحوقاً بعشيرته الجديدة، وهكذا تمَّ تخريب المدينة، بانحدار بعض سكانها الى ما لم يكونوا ينحدرون اليه، ولم تعد المدينة ملاذاً آمناً لبصريٍّ فيها ولا لمهاجر اليها.










