المدى/ سيزر جارو
تشهد بلدات سهل نينوى ومحافظتي دهوك وأربيل تحوّلات ديموغرافية عميقة منذ ما يزيد على أربعة عقود، نتيجة تراكم حملات التهجير والضغوط الأمنية والاقتصادية التي تعرّض لها المكوّن المسيحي - الآشوري. هذه التحوّلات بدأت مع سياسات النظام السابق، مرورًا بما بعد 2003، وصولًا إلى اجتياح داعش وما تلاه من اضطراب سياسي واقتصادي مستمر. وعلى الرغم من محاولات إعادة الإعمار وعودة السكان، إلا أن المشهد الديموغرافي الجديد ما يزال يعكس هشاشة الوجود المسيحي في تلك المناطق.
يقول الناشط الآشوري لؤي أيوب في تصريحٍ خصّ به (المدى) إن “الهجرة ليست قراراً آنياً بل سلسلة نتائج لغياب الضمانات القانونية والأمنية”، مبينًا أن ضعف تمثيل المسيحيين في هياكل إدارة نينوى “جعل العودة مرهونة بانتقال النفوذ من جهة إلى أخرى”. ويضيف أن المناطق المتنازع عليها مثل تلكيبا وباطنايا وبرطلة تعاني طبقات متراكمة من الصراع الإداري، ما جعل استقرار العائدين مسألة غير محسومة.
من جهةٍ أخرى، يؤكد أحد ممثلي المرصد الآشوري لحقوق الإنسان، الناشط إسحاق خمو، لـ(المدى) أن “التحوّل الديموغرافي في دهوك بدأ منذ الثمانينيات عندما فقدت القرى الآشورية القدرة على حماية أراضيها الزراعية”، مشيرًا إلى “حالات استيلاء امتدت لسنوات دون معالجة قانونية حقيقية”. ويرى خمو أن “ضعف الدولة في المناطق الطرفية سمح بممارسة نفوذ عشائري على حساب القرى المسيحية، وهو ما عجّل بانهيار التجمعات الريفية الآشورية”.
وفي سهل نينوى، يوضح مختار بلدة كرمليش – سلام شمعون عبوش لـ(المدى) أن “العودة بعد 2014 كانت شكلية في بعض البلدات، لأن الخدمة العامة لم تُفعّل بالشكل الكافي، إضافةً إلى وجود جهات أمنية متعددة الولاءات”. ويشير إلى أن الأسرة التي تفكّر بالعودة “تحتاج ضمانات قانونية على الأرض، قبل الحاجة إلى تعويضات مادية”.
وأضافت مارلين حنا، وهي ناشطة نسوية من برطلة، في حديث للـ(المدى) أن “النساء كُنَّ الأكثر تضرراً من موجات التهجير، لأن الاستقرار الأسري ومساحة الأمان الاجتماعي تقلّصا في بيئة يغلب عليها التوتر الأمني”. وتقول إن ما يُسمى بـ“عودة السكان” لا يعكس الواقع الفعلي، لأن “نصف العائدين يخططون للهجرة الخارجية إذا سُنحت الفرصة”.
ومن جهةٍ أخرى، صرّح ناشطون بأن “جهات رسمية تنفّذ تغييرًا ديموغرافيًا” في سهل نينوى وأربيل ودهوك تحت ما وصفه بـ“سياسات ناعمة وممنهجة” لبسط نفوذ طائفي أو عرقي على المناطق المسيحية، مؤكّدين أن ذلك يعكس “سياسة عنصرية” تجاه الآشوريين.
الإطار القانوني للتغيير الديموغرافي
يرى خبراء القانون أن ملف التغيير الديموغرافي في سهل نينوى يخضع لجملة من الإشكالات القانونية المتراكمة التي لم تُحلّ حتى اليوم. فمنذ 2003، لم يُفعَّل بشكل كامل قانون أملاك الأقليات أو ملفات إعادة الأراضي المصادرة في عهد النظام السابق، سواء تلك التي تضرّرت بفعل الأنفال أو الحملات الإدارية التي غيّرت الحدود الإدارية لبعض الوحدات المحلية.
ويشير المحامي ثائر يونان، المختص في شؤون الأقليات، في حديثه لـ(المدى) إلى أن “المادة (23/ثالثًا) من الدستور العراقي تحظر تغيير الملكية والسكن لأغراض التغيير السكاني”، لكن غياب الآليات التنفيذية والرقابة القضائية جعل هذه المادة إطارًا نظريًا فقط. ويضيف يونان أن “النزاعات حول الملكية الزراعية في مناطق صبنا ونهلة وبيرسفي تمثّل نموذجًا للفجوة بين النص القانوني والواقع، لأن النزاع فيها لا يُحسم بالأدلة القانونية فحسب، بل يتأثّر بخريطة النفوذ المحلي”.
أمّا في سهل نينوى، فيعقّد وجود أكثر من سلطة أمنية وإدارية المشهد القانوني. فالقانون يمنح الإدارة المحلية حق إدارة الأراضي والسكان، لكن الواقع يشهد تداخلًا بين الحشد الشعبي والقوات الاتحادية والأسايش والبيشمركة. ويؤكّد الباحث السياسي هفال رشو أن “هذا التعقيد أنتج بيئة قانونية ضبابية يشعر فيها المسيحيون بأن حقوقهم مهدّدة، لأن المسؤولية لا يمكن تحديدها بدقّة في حال حصول اعتداء أو تغيير بالملكية”.
إلى جانب ذلك، لم تنجح لجان التعويض التابعة لوزارة الهجرة والمهجرين في إعادة كل الحقوق أو الأملاك، بسبب نقص التمويل والبيروقراطية، وهو ما جعل العودة ناقصة في بلدات مثل باقوفا وباطنايا التي ما تزال نسبة البيوت المتضرّرة فيها تتجاوز 40%، حسب تصريحات أدلت بها بطريركية الكلدان في وقت سابق.
على الرغم من عودة بعض العائلات إلى بلداتها، إلا أن الوجود المسيحي ما زال يعاني من هشاشة عميقة. فالقانون، رغم نصوصه الصريحة، لم يتمكّن من حماية الخصوصية الديموغرافية لهذه البلدات، ولا من معالجة آثار التهجير المتكرّر. كما أن الواقع الأمني والاقتصادي ما يزال يشكّل حافزًا إضافيًا للهجرة، خاصةً بين الشباب.
ويرى المراقبون أن معالجة الملف تتطلّب حلًّا متعدّدَ المستويات: ضبط الأمن في مناطق سهل نينوى، توحيد الإدارة المحلية، استعادة الأراضي المتعدًّى عليها، تفعيل القضاء، وتوفير ضمانات حقيقية لعدم تكرار التهجير. وإلى أن تتحقّق هذه الشروط، سيظلّ المشهد الديموغرافي هشًّا، فيما يبقى مستقبل الوجود الآشوري معلّقًا بين نصوص قانونية لا تُطبّق وواقع يفرض مغادرة مستمرّة.
شهد الوجود المسيحي في شمال العراق، ولا سيما في سهل نينوى ومحافظتي دهوك وأربيل، سلسلة طويلة من التحوّلات التي امتدّت لأكثر من أربعين عامًا، مزجت بين التهجير القسري والنزاعات الإدارية والاضطرابات الأمنية والاقتصادية. وبفعل تراكُم هذه العوامل، لم تعد القرى والبلدات المسيحية تحتفظ بتركيبتها السكانية كما كانت قبل ثمانينيات القرن الماضي، عندما كانت مناطق مثل كرمليش، بغديدا، تلكيف، باطنايا، باقوفا، ألقوش، برطلة، ونهلة وصبنا، تُعدّ مراكز حيوية ذات كثافة آشورية وكلدانية وسريانية واضحة.
وجاء اجتياح تنظيم داعش عام 2014 ليشكّل نقطة الانفجار الأكبر في تاريخ الوجود المسيحي في شمال العراق. فقد خلت بلدات بأكملها من سكانها في غضون 48 ساعة فقط، مع وصول التنظيم إلى الموصل ثم بلدات سهل نينوى.
تعرّضت مناطق واسعة للحرق والنهب والتدمير، بينها بغديدا وكرمليش وباطنايا وقرى أخرى تحوّلت من شوارع مكتظة بالحياة إلى مدن أشباح.
وعلى الرغم من تحرير المنطقة عام 2016، إلا أن العودة لم تكن واسعة كما توقّعت الحكومة. فبينما أُعلنت نسب عودة عالية في بعض البلدات، بقي جزء كبير من العائلات في المهجر أو خارج العراق، وفضّل آخرون الاستقرار في المدن الكبرى مثل أربيل ودهوك وعمّان وبيروت، أو مواصلة رحلة الهجرة نحو أوروبا وأمريكا.
بعد التحرير، أطلقت برامج لإعادة الإعمار بدعم من منظمات دولية وكنسية، لكن هذه الجهود على أهميتها لم تُعالج البيئة الأمنية والإدارية غير المستقرة. فقد بقيت الإدارة في سهل نينوى مقسومة بين قوات اتحادية، ووحدات تابعة للحشد الشعبي، وقوات أسايش وبيشمركة، ما جعل عملية اتخاذ القرار بخصوص الأمن والخدمات والتخطيط العمراني في وضع معقّد.
وتشير تقارير مسيحية مستقلة إلى أن ضعف التنسيق بين هذه الجهات ساهم في تأخر إعمار البنى التحتية، خصوصًا في المناطق التي تعرضت لتدمير بنسبة تجاوزت 70% مثل باطنايا. وفي حين عادت آلاف العائلات إلى بغديدا وبرطلة وكرمليش، بقيت العودة في مناطق أخرى محدودة، لغياب فرص العمل والخدمات، ولشعور كثير من السكان بأن تلك العودة قد تكون مؤقتة.
المشهد السياسي بدوره لعب دورًا مهمًا في التحوّل الديموغرافي. فالتنافس بين القوى السياسية على إدارة سهل نينوى خلق انقسامًا حادًا بين السكان، وقلّل من إمكان وجود تمثيل مسيحي فاعل في صنع القرار. كما أن تدخل قوى خارجية في شؤون المنطقة عبر دعم فصائل أو ميليشيات أو قوى محلية جعل الهوية السياسية للبلدات المسيحية هشّة وغير مستقرة.
وتقلص عدد المسيحيين في شمال العراق إلى مستويات لم يشهدها التاريخ الحديث. وعلى الرغم من عودة بعض العائلات، إلا أن القلق مستمر من موجات هجرة جديدة قد تُفرغ سهل نينوى من مكوّن عاش فيه لآلاف السنين.










