TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الهجرة من التعليم الحكومي إلى التعليم الأهلي: أزمة توازن تهدد مستقبل التخصصات الأكاديمية

الهجرة من التعليم الحكومي إلى التعليم الأهلي: أزمة توازن تهدد مستقبل التخصصات الأكاديمية

نشر في: 4 ديسمبر, 2025: 12:16 ص

د. طلال ناظم الزهيري

تشهد منظومة التعليم العالي في العراق تحولات جوهرية خلال السنوات الأخيرة، أبرزها التزايد المضطرد في انتقال الطلبة من الجامعات الحكومية إلى الكليات الأهلية، وهو انتقال لم يعد مجرد خيار شخصي، بل أصبح ظاهرة واسعة تهدد التوازن المطلوب في خارطة التخصصات العلمية والإنسانية. فقد كان يُفترض أن تشكل الكليات الأهلية عامل دعم وتطوير للتعليم، وأن تواكب المستجدات العالمية، وتسد النقص في بعض البرامج، وتدفع نحو بيئة تنافسية ترفع الجودة. إلا أن الواقع أظهر أنها، في كثير من الأحيان، أصبحت عبئًا على المنظومة التعليمية، ومصدرًا لاختلال التوازن بين التخصصات، وموسمًا مفتوحًا لقبول أعداد كبيرة من الطلبة في برامج لا تتناسب مع احتياجات سوق العمل أو مع المعايير الأكاديمية الرصينة. لقد ساهمت الهبوطات الحادة في معدلات القبول في تخصصات كانت إلى وقت قريب حكراً على الحاصلين على معدلات مرتفعة في الجامعات الحكومية في خلق بيئة جديدة تغيّر سلوك الطلبة. إذ وجد الطالب العراقي نفسه أمام خيارين: دخول تخصص حكومي لا يضمن له فرصة عمل، أو الالتحاق بكلية أهلية تمنحه “فرصة العودة” إلى تخصص مرغوب مهما كان معدله. وهكذا تحوّل التعليم الأهلي إلى بديل جذاب، ليس بسبب جودته، بل بسبب قدرته على تقديم مقاعد في تخصصات حساسة بمعدلات متدنية، الأمر الذي أدى إلى هجرة جماعية من التعليم الحكومي نحو التعليم الأهلي. هذا الواقع خلف سلسلة من التداعيات الخطيرة، أولها تهديد وجود عدد من الأقسام العلمية والإنسانية في الجامعات الحكومية، إذ أصبحت بعض الأقسام تستقبل أعداداً من الطلبة أقل من عدد التدريسيين، وأخرى تمر بدورات قبول لا تتجاوز فيها أعداد الطلبة العشرة في سنة دراسية كاملة. هذا التراجع لا يهدد الأقسام فحسب، بل يضرب جوهر الجامعة التي تقوم على التنوع المعرفي والتوازن بين التخصصات، ويقلل من قدرة التعليم العالي على إنتاج المعرفة والبحث العلمي. كما أدى هذا الخلل إلى تشويه سوق العمل، فبدلاً من أن تكون مخرجات الجامعات انعكاسًا لحاجة التنمية الوطنية، أصبحت انعكاسًا لقدرة الطلبة على دفع الرسوم. فنتج عن ذلك فائض كبير في مجالات معينة، مقابل عجز واضح في تخصصات أخرى ذات أهمية استراتيجية، بما فيها الزراعة، والعلوم الأساسية، والتقانات الحديثة، والتخصصات التربوية، والبرامج البحثية التي تُعد أساس أي تقدم علمي أو اقتصادي.
وعند مقارنة التجربة العراقية بتجارب دول نجحت في ضبط توازن التخصصات، نجد أن ماليزيا وفنلندا وكوريا الجنوبية وضعت خططًا وطنية واضحة تحدد التخصصات التي تحتاجها الدولة خلال عقود، وربطت أعداد المقاعد، ومعدلات القبول، وفتح الأقسام بمعايير صارمة تستند إلى احتياجات حقيقية لا إلى رغبات مؤسسات التعليم أو قدرتها المالية. كما فرضت تلك الدول رقابة فعّالة على الجامعات الخاصة، ومنعتها من فتح تخصصات تسبب فائضًا أو تراجعًا في جودة المخرجات، وأغلقت البرامج التي لا تحقق المهام الأكاديمية المطلوبة. إن معالجة هذا الخلل في العراق تتطلب مجموعة إجراءات واقعية، أبرزها إعادة تنظيم سياسة فتح الأقسام في الكليات الأهلية وربطها بخطط تنموية موثوقة، ومنع التوسع العشوائي الذي لا يقوم على دراسة علمية دقيقة. كما ينبغي إعادة التفكير في سياسة القبول المركزي لضمان المرونة دون التفريط بالجودة، ودعم الأقسام الاستراتيجية في الجامعات الحكومية بمنح بحثية، وحوافز للطلبة، وبرامج ابتعاث وتدريب. ولا بد من تعزيز العلاقة بين الجامعات وسوق العمل، وإنشاء مجالس استشارية مشتركة، وتشجيع المشاريع التطبيقية، وإعادة النظر في تخصصات المستقبل التي يحتاجها البلد، مثل الذكاء الاصطناعي، وإدارة المعرفة، وعلوم البيانات، والطاقة المتجددة. لقد بات واضحًا أن استمرار الهجرة من التعليم الحكومي إلى التعليم الأهلي، بوضعه الحالي، يشكل تهديدًا مباشرًا للتوازن المعرفي في البلاد، ويقلل من قدرة الدولة على تخريج كوادر متوازنة ومتخصصة في المجالات الحيوية التي تقوم عليها التنمية. فالأزمة ليست أزمة قبول أو مقاعد دراسية، بل هي أزمة رؤية وتنظيم وتخطيط طويل الأمد. ولذا فإن إصلاح منظومة التعليم يتطلب إرادة واعية، وتشريعات واضحة، ورقابة جادة، قبل أن تجد الجامعات نفسها أمام واقع لا يمكن عكسه، وأمام أقسام أكاديمية كانت يومًا أساسًا للبناء العلمي، لكنها الآن مهددة بالإغلاق لأن عدد أساتذتها أصبح أكبر من عدد طلبتها. اننا في هذا المقال نحاول ان نسلّط الضوء على الخطر الذي يهدد المنظومة التعليمية، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب إن وجدت الإرادة نحو تطوير حقيقي يعيد للتعليم الحكومي مكانته، ويرفع مستوى التعليم الأهلي ليكون رافدًا وطنيًا لا عبئًا إضافيًا، ويضمن للعراق منظومة تعليمية متوازنة وقادرة على صنع مستقبل أكثر علمًا واستقرارًا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram