علاء المفرجي
ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد بهوء وروية، ذلك أن مهند ليس في عجلة من أمره، لأنه يدرك جيدا، أن ما اختاره منذ البدء، هو ما ينسب حياته، وبالتالي قدره.. وعندما يكون الاختيار قدرا، فهذا يعني ان جميع الأمور متاحة للبروز.
اظن أنني قلت «التجربة المعرفية» لمهند، واظن أنني لم اخطئ على ما اعتقدت به، فالذي يعرف هذا الفتى (فتى السينما) يشاركني اعتقادي هذا، فهو لا شك ذو خزين معرفي اكبر من سنه، قارئ، ومجادل في غير جنس معرفي، وله وعي وخيال واسع، بإمكانه أن يصطاد فكرة غير متاحة لغيره، وحتى وهو يحدثك عن فكرة ما، فأنه يحيلك الى صورة هذه الفكرة، بمعنى أنك تمسك بها كصورة، وهذا دليل على سعة خياله، وهي الصفة التي تطبع مخرج مختلف، لا كغيره.. مخرج ما زلنا نبحث عنه في تجربة السينما العراقية.. مهند باختصار ليس موظفا يبحث عما يدره العمل في السينما من مال، بل فنانا يبحث عن مبتغاه هو في الفن، فنان فهم جيدا ما يحتاجه الفن، وهذا يجعلني أؤمن بما يمكن أن يحققه مهند مستقبلا.
لم أكن لوحدي من استنتج كل ما قلت عنه، بل هناك الكثير ممن استشرف بمهند ما أقول، وألا كيف يضع منتج ثقته فيه، عندما يسند اليه أخراج مسلسل تلفزيوني، ويكون عند حسن ظن المنتج والمتلقي، وقبل كل شيء الفن الذي يبحث عنه مهند.
وإذا كنا نبحث عن دليل سينمائي يكفي أن نشاهد فيلمه (شارع حيفا)، ويكفي ان نعرف شكل الكاست الذي عمل معه، والفكرة التي استقاها من تفاصيل الحياة أو قل الموت اليومي، في أيام الحرب الطائفية التي عصفت بالبلد قبل سنوات قريبة.
فـ "شارع حيفا" ليس مجرد فيلم عراقي عن حرب. إنه محاولة - ربما أولى من نوعها في السينما العراقية المعاصرة - لنقل تجربة "المدينة الممزقة" إلى الشاشة بأمانة فنية، دون تجميل، دون تزييف. إنه يعمل كمرآة لما عاشته بغداد وبقية مدن العراق: عن العنف، الخوف، التفكك، والألم — لكنه أيضًا عن الشجاعة على التذكُّر، عن الحرص على نقل الحقيقة، عن رفض نسيان من خسروا حياتهم أو كرامتهم. فهذا الفيلم رغم قسوته، يقدم خدمة ثقافية وإنسانية. نقده أو إعادة قراءته ليس مجرد مقارنة فنية، بل فعل سياسي-ثقافي: هل نتمكن أن نتذكّر، أن ننكأ في الجراح، أن نحذر من عودتها؟
فمقارنة بأفلام عراقية تناولت موضوع هذه الحرب، والعنف الاجتماعي، أو محاولة معالجة مأساة عراقية فأن ما يميّز "شارع حيفا" في هذا السياق. أنه يعيد العنف إلى "الشارع" — إلى حياة الناس اليومية في بغداد عام 2006، حيث الصراع الطائفي ــ بالتالي التركيز ليس على جندي أو سجين، بل على مدنيين وجيران، على نزاع اجتماعي وطائفي، وعلى واقع مدني ممزق. هذا يعطي "شارع حيفا" بعدًا جماعيًا — ليس فقط مأساة الفرد، بل مأساة المجتمع.
اعتمد مهند حيال في فيلمه أسلوب سينمائي مكثف: الأحداث في مساحة ضيقة، وهذا يسوّغ تأثير اللحظة، حيث الشعور بالخنق، القلق، الخوف النفساني.
وفي الختام، أتساءل مثل هذه المعالجة ألا تنم على سعة خيال، ووعي متقدم لفهم هذه الحرب وابعدها ومأساتها، نعم، هذه المعالجة العراقية تحتاج لمخرج من طراز مهند حيال، الذي التقط ممثلا كبيرا (علي ثامر) رغم حداثة عمره في أن يؤدي دور البطولة في هذا الفيلم باقتدار عال وموهبة أكيدة.
أقول السينما العراقية سيكون لها شأن مستقبلا بوجود مخرجين على شاكلة هذا المخرج الموهوب.









