أديب حسن
في كتابه الجديد “سدنة المعنى.. مدوّنات عراقية في السيرة”، الصادر عن دار أهوار البغدادية للنشر والتوزيع (2025)، يقدّم الكاتب والناقد جمال العتّابي عملاً استثنائياً في مجاله، إذ يمزج بين التأمل السيري والكتابة الثقافية في نسيجٍ واحد تتجاور فيه الذاكرة والمعرفة، والوفاء والإبداع. ليس الكتاب مجرد توثيق لسير شخصيات عراقية فاعلة، بل هو محاولة لاستعادة الوعي الجمالي والفكري الذي شكّل ملامح الثقافة العراقية الحديثة.
يتناول العتّابي في هذا العمل نخبةً من الشخصيات الوطنية والسياسية والفكرية التي أسهمت في ترسيخ قيم التقدّم والعقلانية وبناء الدولة المدنية الحديثة، من خلال أدوارها في الثقافة والتعليم والسياسة والإبداع. هؤلاء هم “سدنة المعنى” الذين حرسوا الفكرة العراقية من التلاشي، وظلّوا أوفياء لقيم الحرية والتنوير حتى في أحلك الظروف. ومن خلالهم يستعيد الكاتب تاريخاً غير مكتوب من نضال الفكر ضد الاستبداد، ومن إيمان الثقافة بقدرتها على التغيير.
“السدانة” هنا ليست طقساً دينياً، بل فعلٌ معرفيٌّ وروحيّ، فالسادن في رؤية العتّابي هو المثقف الذي يحرس نار المعنى من الانطفاء، ويذود عن الوعي في وجه العتمة والنسيان. فعنوان الكتاب يمثل رمزية لوصية فكرية متواصلة، يجسّد فيها الكاتب الرسالة التي حملها أولئك المبدعون الذين أسهموا في بناء مؤسسات الدولة العراقية وإرساء قيمها الفكرية والمدنية. وهكذا تتحوّل الكتابة إلى طقس وفاء واعتراف بالجميل، وإلى ممارسةٍ أخلاقية تنبع من الإيمان بأنّ الفكر الحر هو الشكل الأسمى من المقاومة.
تتوزع فصول الكتاب الذي قدّم له الدكتور جليل العطية، على مدوّنات قصيرة تقترب من فنّ القصة أو المقامة الحديثة، تمتزج فيها السيرة بالاعتراف، والذاكرة بالتأمل. لا يقدّم العتّابي تراجم جامدة أو بيانات سير ذاتية، بل يعيد صياغة الذاكرة بلغةٍ أدبيةٍ رشيقة، تجعل الشخصيات تنبض بالحياة، كأنها تتحاور معه أو تروي ذاتها من خلاله. في كل فصل، نسمع نبرة العتّابي الداخلية وهو يتأمل مصائر أصدقاء وأساتذة ومبدعين شاركوه الحلم والآمال والخسارات، ليحوّل الذاكرة إلى عملٍ جماليٍّ حيّ.
في زمنٍ تتراجع فيه القيم الفكرية أمام ضجيج السياسة وسرعة التحولات، يأتي “سدنة المعنى” ليذكّر بأنّ الثقافة هي الحصن الأخير لهوية العراق. فالمثقفون الذين يحتفي بهم الكتاب هم من زرعوا فكرة الدولة المدنية في وجدان الناس، وحلموا بوطنٍ لا يقمع الفكر ولا يصادر الجمال. إنهم شهودٌ على زمنٍ ظلّ فيه الإبداع فعلاً مقاوماً، والكتابة ضوءاً لا ينطفئ.
الكتابة عن: فيصل السامر، هاني فحص، مكرم الطالباني، علي الوردي، نوري جعفر، علي جواد الطاهر، مهدي المخزومي، إبراهيم السامرائي، عبد الجليل الطاهر، عزيز شريف، مصطفى علي، هديب الحاج حمود، كمال مظهر، محمد ملا كريم، عبد الرزاق مسلم، محمد سلمان حسن، حسين قاسم العزيز، حكمت الشعرباف، حيدر علي، خالد السلطاني، شمران الياسري، رشدي العامل، كامل شياع، الفريد سمعان، القاص والروائي جيان، مدني صالح، فاضل عباس هادي، قاسم عجام، سعد صالح...وغيرهم العشرات من أمثالهم. حاول هنا العتابي أن يضيء حياة كل منهم بلغة أخرى، لغة تتجاوز التقريرية والتاريخ لتصل إلى جوهر الشخصية.
ثمة وفاء يحمله جمال، وفاء للحياة التي عاشها، للعلاقات التي ربطته بالمروّي عنهم، ووفاء لفعل الكتابة ذاته، فهو من النادر أن يكتب أو يتحدث عن نفسه. ما يفعله الكاتب يعلو على تلك التسميات، انه وفاء نبيل يسمو على نكران الذات، هو وفاء لأنه ينحاز إلى الآخرين، إلى تجاربهم، فيكتب عنهم بصدق ومحبة ومعرفة. وهو نكران ذات لأن العتابي يضع نفسه في الظل عمداً، ويجعل من قلمه مرآة للآخرين، كأنه يعبر في هذا الصمت عن ذاته، وهو أرقى أشكال الحضور، وفي الاحتفاء بالآخرين احتفاءً خفياً بنفسه.
ولعلّ ما يمنح الكتاب عمقه الإنساني هو حضور الكاتب ذاته فيه بوصفه شاهداً ومشاركاً في التجربة الثقافية العراقية. فالعَتّابي يكتب من قلب المعاناة العراقية التي عاشها، ومن إحساسٍ دائم بمسؤولية المثقف تجاه تاريخه ومجتمعه. ومن هنا تبدو كل صفحة في الكتاب ممهورةً بصدق العاطفة، وبإيمانٍ عميق بأنّ الكتابة فعل حياة، وأنّ الثقافة لا تموت ما دام هناك من يكتب بإخلاصٍ وشغف.
هذا العمل يأتي امتداداً لمشروع العتّابي المعرفي المتنوّع الذي شمل مجالات الرواية والنقد التشكيلي، والنقد الروائي وفضاء المكان، وفي “سدنة المعنى” يواصل سعيه الدؤوب نحو تأصيل الجمال والمعنى في الفكر العراقي، وتثبيت دور المثقف في مواجهة الفوضى والتغييب.
في نهاية المطاف، ليس هذا الكتاب عن أشخاصٍ رحلوا فحسب، بل عن روحٍ عراقيةٍ حيّة ما زالت تبحث عن معنى وجودها في هذا العالم المضطرب. ومن بين الصفحات تبقى جذوة المعنى متّقدة، تؤكد حقيقة بأنّ الكلمة الحرة تظلّ أجمل ما يخلّده الإنسان في وجه الفناء.
“سدنة المعنى” كتاب في الوفاء والتنوير، وفي الإيمان بأنّ الثقافة العراقية – رغم جراحها – ما زالت قادرة على أن تُنجب سدنتها الجدد، حُرّاس الفكر والجمال والمعنى.
سدنة المعنى.. حُرّاس الذاكرة العراقية

نشر في: 7 ديسمبر, 2025: 12:02 ص








