د. نادية هناوي
القسم الأول
شهدت مرحلة الخمسينات انعطافة مهمة لا في تاريخ الشعرية العربية ببزوغ حركة الشعر الحر حسب؛ إنما أيضا بانبثاق نشاط قصصي واضح ذي أدوات خاصة وتقنيات جديدة مميزة ناتجة عن استيعاب دقيق لاتجاهات الواقعية التي تنص على ربط الأدب بالحياة. وكان دأب القصاصين مستمرا في أن يواكبوا حركة الحياة المتسارعة سياسيا وكفاحيا باتجاه التحرر والتغيير. وساهمت الصحافة اليومية في الزج بهم وأدبهم في أتون الواقع السياسي والاجتماعي المضطرم بالمتغيرات.
وبالرغم من ذلك النشاط القصصي؛ فإن النقد الادبي ظل متأخرا عن اللحاق به. فكان لزاما على الدرس الاكاديمي أن يكون مماشيا هذه التطورات الادبية في راهنها، مخالفا المنحى التاريخي الذي كان ينحاه في الغالب والمتمثل في الاهتمام بالموروث الأدبي حسب.
وكان مطلوبا ممن يروم دراسة المنجز القصصي العراقي خلال ربع قرن أو نصفه أن يقر بحقيقة التميز النوعي لهذا الأدب وهو ينتهج مختلف أشكال الواقعية، وبعض هذه الأشكال لم يكن النقد الادبي آنذاك قادرا على مجاراتها.
ولقد مرت القصة العراقية بتطورات تميزت بها عن نظيراتها العربية بدءا من مرحلة نشوئها أواخر القرن التاسع عشر حتى بلوغها مرحلة الاستمكان والتبلور في منتصف خمسينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من ذلك، فانها ظلت بعيدة عن أية دراسة أكاديمية، حتى جاءت دراسة الاستاذ عبد القادر حسن أمين ( القصص في الأدب العراقي الحديث) لتكون الرائدة في الدرس البحثي الأكاديمي، والباكورة التي بها يفتتح النقد القصصي طريقه في العراق، شاقة الطريق للباحثين من بعدها، متحرية الدقة والموضوعية ومعنية بالاستقصاء والرصد، متصفة بالنزعة العلمية التي بها نال صاحبها شهادة الماجستير تحت إشراف باحث متخصص في القصة له فيها كتب مهمة، ظلت مراجع ردحا طويلا من الزمن هو الدكتور محمد يوسف نجم.
لا شك في أن العمل الأكاديمي المعد كبحث لنيل الماجستير أو الدكتوراه هو جهد مشترك بين الباحث والمشرف، هذا بقلمه وذاك بمشورته وتوجيهه؛ بيد أن شخصية الباحث لا بد أن تكون واضحة وهو يضع خطواته على أعتاب كتابة بحثية لا سابق لها، لتكون ريادية، مخالفة السياق التاريخي الذي كان سائدا، مهتمة بنتاج أدبي بعضه حديث ومعاصر، وبعضه الآخر مزامن للدراسة نفسها؛ يعتني بالفن القصصي الذي كان مهملا في ظل حاضنة ثقافية فيها للشعر القدح المعلى.
ونضيف إلى ما تقدم ما تحلى به الباحث عبد القادر حسن أمين من دراية بالمسؤولية النقدية وهو يحلل ويؤرخ ويشخص ويحصي ويرصد. وبغض النظر عن مستويات الاداء النقدي الذي مارسه إزاء القصاصين وقصصهم ورواياتهم، فانه استند إلى مراجع لها صلة بالموضوع المبحوث، وتتنوع بين الكتب العراقية والعربية والمصادر النقدية الأجنبية مع الاستئناس أيضا بآراء من تصدى للقصص فضلا عن نصوص مخطوطة تمكن الباحث من الحصول عليها ومرجعيات شفوية كمقابلة المعنيين بشؤون الأدب في العراق، واعتمادا على منهج فني ابتغى الباحث من ورائه الموضوعية والدقة العلمية، اللتين هما أهم مقوم من مقومات أي بحث أكاديمي، تجنبه الانزلاق نحو التاريخ او الايديولوجيا كما تمكنه من ضبط تسرب الذاتية إليه مع تحاشي نوازع العقل الباطن.
ولا يمكن للنظر العلمي أن يكون ثاقبًا وحصيفًا ما لم يستند الناقد الى الاصطلاحات والمفاهيم النظرية التي بها يتتبع القصة تاريخيا وفنيا، نشأة وتطورا وفي الحدود التي كان النقد العربي الحديث قد عرفها آنذاك.
والقصة العراقية منذ نشأتها وثيقة الصلة بالواقع ومشكلاته، لهذا انعكست فيها كثير من تناقضاته السياسية والاجتماعية، من خلال قصاصين تفاوتت تجاربهم الفنية بين أشكال مختلفة قصيرة وطويلة، تفرق نشرها في الجرائد والمجلات المحلية والعربية أو في مجموعة من الكتب الخاصة.
وهذا ما جعل للقصة حضورا واضحا في المشهد الأدبي في العراق كحقيقة لا غبار عليها دعمتها الصحافة والواقع الاجتماعي وأخذت من المقامة العربية والتراث النثري القديم، وتأثرت بالقصة التركية والانجليزية والروسية والفرنسية في بعض من تقنياتها.
وبالرغم من أن التأشير على من يخوض غمار البحث لأول مرة في مجال معين، سيكون مهما أن يُعترف له بالفضل والريادة؛ فإن ذلك الاعتراف لم يعلن عنه بوضوح لا في الملتقيات التي خصصت لدراسة فن القصة ونقدها والتي لم تعط لهذا الباحث وقفة اهتمام يستحقها منذ الملتقى القصصي الأول عام 1978 وإلى اليوم، فضلا عن أن باحثا سيأتي بعد أمين ببضع سنوات سيتجاهل الإشارة إلى عبد القادر حسن أمين، غير معترف بجهده القيم في دراسة القصة العراقية، وهو الدكتور عبد الإله أحمد في كتابه ( نشأة القصة وتطورها في العراق 1908ـ 1939) الذي هو رسالة ماجستير نالها من إحدى الجامعات المصرية، مع أنه اعتمد النهج النقدي عينه الذي انتهجه الباحث عبد القادر حسن أمين.
إن تغاضي عبد الاله أحمد عن الإشادة بجهد الباحث أمين يعني عدم الاقرار له بالفضل، إذ لم يذكره في أية مقدمة من مقدمات كتابه الذي طبع أكثر من مرة. أما ذكره أمينا في كتابه( فهرست القصة العراقية) وأنه أول جهد( يفهرس) لأعلام القصة بملحق، فلم يكن تاما كونه استدرك على ذلك السبق، في الهامش مغيرا المعلومة، قائلا: ( في الواقع إن الإشارات الهامة إلى الأدب القصصي العراقي وردت في بحث الدكتور سهيل ادريس( القصة العراقية الحديثة) .. وكتاب جميل سعيد نظرات في التيارات الادبية الحديثة في العراق..)
والأمر عينه نجده عند ناقد عراقي مرموق هو عبد الجبار عباس الذي تغاضى عن ذكر دراسة عبد القادر حسن أمين وهو يرسم في كتابيه( في النقد القصصي) و( مرايا جديدة) خارطة للنقد الأكاديمي من الخمسينيات إلى نهاية السبعينيات، واضعا فرشة نقد نقدية لكثير من الدراسات الأكاديمية التي تصب في باب النقد الشعري والقصصي وبعضها صارت كتبا فوقف عند الدكتور علي جواد الطاهر وشجاع العاني وعبد الاله أحمد وعاتكة الخزرجي ونادية رؤوف فرح وجليل كمال الدين وإحسان عباس وعلي عباس علوان ومحمد حسين الاعرجي ورزاق حسن ابراهيم، باستثناء إشارة خافتة وسريعة أخذ فيها على عبد القادر حسن أمين أنه وقف عند القصة وأهمل الرواية بقوله: ( يلاحظ المتتبع للدراسات الأكاديمية التي وضعت عن القصة العراقية أنها وقفت عند القصة القصيرة فلم تتجاوزها إلى الرواية، التي لم تنل من اهتمام الدارسين ما ناله الشعر والمسرح وفن القصة القصيرة، .. فلو قرأنا كتب جميل سعيد وعبد القادر حسن أمين وباسم عبد الحميد حمودي وشجاع العاني في القصة العراقية لوجدناها تمر مرورا عابرا على النتاج الروائي العراقي»، مشيدا بدراسة عمر الطالب ( الرواية العربية في العراق) واصفا إياها بأنها( أول جهد مستكمل الجوانب أحاط بجميع ما كتب في فن الرواية العراقية)
وفي هذا إجحاف بحق الباحث عبد القادر حسن أمين الذي تناول مختلف أشكال القصة، ولعل السبب أن عباسا لم ينظر إلى كتاب( القصص في الادب العراقي الحديث) عن كثب، فعبد القادر أمين درس الروايات تحت باب القصة، وشخّص فيها مناحي فنية ليست بالقليلة.
ومعروف أن لعبد الجبار عباس وعيا نقديا عاليا، وهو الذي أشّر ضمور النقد الأدبي العربي المعاصر بسبب غياب النظرية وضياع القواعد والملامح المميزة للتنظير والفحص، ووقف عند كتاب إحسان عباس( تاريخ النقد الأدبي عند العرب) ووجد فيه استكمالا لجهود أحمد طه إبراهيم في النقد المنهجي عند العرب، مؤكدا أنّ هذه خطوة ضرورية ولها مثيلاتها في الدرس الأوربي النقدي، فلماذا إذن تجاهل هذا الأمر مع عبد القادر حسن أمين، معتبرا د. عبد الإله أحمد وحده الذي قدم ( جهدا يؤهله بحق مركز الريادة في دراسة فن القصة في العراق) ؟ !!
إن عدم الاعتراف لأمين بالريادة ليس مطلقًا عند كل الباحثين، فالدكتور شجاع العاني أقرّ بالريادة لعبد القادر أمين في أكثر من مناسبة، وأشار في كتابه( المرأة في القصة العراقية ) إلى آرائه ووافقه على بعض منها.
من منسيات النقد الأدبي في العراق

نشر في: 7 ديسمبر, 2025: 12:03 ص








