TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

نشر في: 7 ديسمبر, 2025: 12:04 ص

 لطفية الدليمي

لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes). انسانٌ نام نومة طويلة، بعدها استفاق من نومته ليجد عالماً لا يعرفه ولا يستطيع التعامل معه لإفتقاده الخبرات اللازمة للعيش في هذا العالم.
اتخيّلُ أحياناً أنّ هذه الفنتازيا القصصية لويلز قد تتكرّرُ مع العراقي، مع فارق أنّ العراقيّ قد لا يجد العالم الذي تخيّله أو إعتاد على تخيّله باستمرار. الأكثر فنتازية أن لا يجد العراقي نفسه. بعد سنوات لا أظنُها بعيدة قد يستيقظ العراقيُّ النائم على أحلام الريع النفطي أخيراً. ليس منبّه الهاتف النقّال هو الذي أيقظه بل غياب الضجيج اليومي. غابت نشراتُ أسعار النفط، وليس من تصريحاتٍ عاجلة عن درجات وظيفية، ولا شائعات عن موازنة انفجرت من كثرة الوعود. العالم اختفى. المسؤولون (هل هم مسؤولون حقاً!!) فرّوا وتركوا البلاد للعبث ونعيق الغربان. تكفّلْ بنفسك أيها العراقي. على باب البلاد وُجِدَتْ ورقة صفراء كبيرة الحجم،كتبها راءٍ عليم كلي المعرفة، تقول: “ غادرنا عصر الطاقة الأحفورية. حاولنا أن نوقظكم؛ لكن سباتكم كان أعمق من قدرتناعلى إيقاظكم!!. «
وقف العراقي حائرًا، ليس لأنّه فقد ثروة الأرض بل لأنه اكتشف متأخراً أنّ الثروة الوحيدة التي لم يفكّر يوماً في استثمارها كانت نفسه وقدراته. طوال عقود كان يعتقد أنّ قوانين الزمن تنخذل عن الفعل عند حدود العراق، وأنّ العالم سيظل في الانتظار مهما طال النوم؛ لكنّه اكتشف بعد صحوته من سبات طويل أنّ العالم ليس صديقًا وفياً بل قطارٌ يتحرّك دون النظر إلى المقاعد الفارغة، وأنّ عجلاته تهرس المتخاذلين من غير رحمة.
لم يكن العراقي مستعدّاً لعالم بلا نفط. طوال سنوات، كان النفط يقدّم له إجاباتٍ جاهزة لكل الأسئلة: كيف نعيش؟ من أين نأكل؟ لماذا لا نعمل عملاً حقيقياً كما يعمل البشر في كلّ العالم؟ الجواب دائماً كان بسيطاً مباشراً: نبيع نفطاً ونأكل. صباح الصحوة كان مختلفًا. اكتشف الناس أنّ الغنى لم يكن يسكن في النفط بل في أسطورة النفط، وأنّ الحكومة الفاشلة التي تبني اقتصادها على مورد واحد تشبه بيتاً من ورق يتظاهر ساكنوه بأنّه حِصْنٌ . ما أن سقطت أوّل بلاطة رملية هشّة في هذا الحصن الموهوم تذكّر الجميع أنْ لا أحد يعرف ماذا يعني أن يعيش الإنسان على الإنتاج لا على الريع، وعلى التفكير لا على إنتظار طيّبات الأرض الجاهزة. البعض وقف أمام شاشة التلفاز القديم الذي إنتهت علامته التجارية بفعل التقادم التقني، منتظرًا تصريحاً يطمئنه بأنّ كلّ شيء سيعود كما كان؛ لكنّ التلفاز نفسه توقف عن العمل، ربّما لأنه لم يجد طاقة لإدامة إشاعة الوهم القديم.
لنكنْ صرحاء ومباشرين؛ فالوضع الكارثي لا يحتمل المداراة والكلمات الترقيعية.العراقي إعتاد بفعل سياسات حكومية طويلة أن يترك ذكاءه في وضع الطيران. ظلّ يعيش اليوم بيومه، لا لأنّ الحياة قصيرة بل لأنّ التفكير في الغد كان مؤجلاً إلى إشعار حكومي آخر. فجأة وجد نفسه أمام سؤال لم يطرحه منذ جيل كامل: “ماذا أفعل بنفسي؟». سيحاول البعض أن يمارس طقوس ما قبل صحوة السبات الطويل: البحث عن واسطة لوظيفة لم تعُدْ موجودة، انتظار راتب من خزينة فارغة سرقها الفاسدون قبل الإفلات بغنائمهم، شراء هاتف جديد بالتقسيط رغم غياب الدخل، ممارسة الإلهاء الطويل في المولات والمطاعم. البعض الآخر سيدخل مرحلة الإنكار الوطني:
«مستحيل ينتهي النفط…”، وهو بقوله هذا يشبه من ينكرُ تشخيص إصابته بسرطان مميت. هؤلاء يرون أنّ البشرية ارتكبت خطأ بمغادرة عصر الطاقة الأحفورية دون أخذ رأي العراقيين في استفتاء عالمي.
هناك بين العراقيين فئة ثالثة، صغيرة ولكنها خطيرة، عرفت قبل السبات الطويل إلى أين تتّجه بوصلة الخمود العراقي: أولئك الذين فهموا أنّ الخسارة ليست في سقوط الأسطورة بل في سقوط الوهم، وأنّ الإنسان الذي يرتضي أعطيات الحكومة (رشوتها بالأصحّ) هو أفقر من الفقير الحقيقي، وهو خائن لبلده. لن تنفع التسويغات في نقض هذه الصورة.
الحكومة بلا نفط هي إيذانٌ بأفول عصر الخطابات الجاهزة. كانت الحكومة معتادة على ثلاث أدوات حُكْم:
الوعود المجانية، التعيين المنفلت، والإنفاق البَطِر من غير حساب.
حين اختفت هذه الأدوات بغياب النفط وجد السياسيون أنفسهم أمام فضيحة. هذه حقيقتنا. لم نتحسّبْ لمستقبل وأهدرنا موارد ثمينة ضاعت ولن تعود. لن تستطيع الحكومة بعد اليوم تخدير الناس بمفردات قديمة متهالكة.
بعد هذا السبات الطويل سنوضعُ في موضع الإمتحان أمام الأسئلة القاسية المؤجلة طويلاً: نحن دولة الريع، وعندما غاب الريع غابت الدولة. هل نحن دولة حقيقية أم أكذوبة تغذّت على موائد النفط؟ الأكثر غرابة من كلّ شيء هو انطفاء الصراعات السياسية التي كانت مشتعلة بالأمس. بدت اليوم كوميدية ولا معنى لها. ما معنى التمسّك بالسلطة حين لا توجد موارد لتوزيعها؟ من يقاتل من؟ ولماذا؟ تحوّل كرسيُّ الحكم من جائزة إلى عبء، ومن حلم إلى مسؤولية حقيقية، وهذا ما لم يتدرّب عليه أحد لأن لا أحد يريد هذا العبء.
حين فقد العراقي العالم، بدأ يسأل لأول مرة عن نفسه ومعنى حياته. ما قيمة الإنسان إذا لم يَعُد العالمُ في حاجة إلى موارده الطبيعية؟ هل يستطيع أن يتحوّل من متلقٍّ إلى منتج؟ من مستهلك منفعل إلى صانع فاعل؟ هل يستطيع هذا بعد عقود طويلة من المعارك الفقهية والإحترابات الطائفية والمشاحنات القومية والمناكفات التحزّبية. الإجابة قاسية بلا شكّ ولكنّها عادلة: العراقي يملك الذكاء لكنّه لم يوظفه. يملك التاريخ لكنه عاش على ذكرياته لا على خبراته. يملك الخصوبة الأرضية والبشرية لكنه فضّل استيراد الخضار والأفكار والتقنيات معاً.
الأمم لا تنهض بالماضي مهما كان مشرقاً بل بالقدرة على إنتاج مستقبل لم تتمّ تجربتُهُ بعدُ. المستقبل لا يوزَّع مثل الرواتب، ولا يأتي عبر البيانات العاجلة. المستقبل يُصنَعُ ولو تأخر المصنع ألف عام على انجاز مهمّته.
السخرية المُرّة لم تَعُدْ ترفاً لغوياً ولا طريقة للتهكّم على الواقع. أصبحت مرآة تصارحُنا بحقيقتنا التي نجاهدُ في إخفائها أو تغييبها. نسخرُ من المواطن الذي ينفق مالَهُ على المولات بينما يشتكي من ضيق العيش؛ لكن المول المشيّد من أموال الفساد بغية تبييضها لم يكن ليستمرّ لو قاطعه الناس. نحبّ الإستعراضات أكثر من مواجهة الحقائق القاسية. كنّا حتى الأمس القريب نعيبُ على جيران لنا نرى فيهم سفاهة في الإنفاق، واليوم صرنا نبزّهم في بعثرة المال من غير حساب. نسخرُ من الحكومة التي توزّع الوعود المعسولة الكاذبة؛ لكنّ وعودهم ما كانت لتعيش لو لم تجد جمهوراً يتمرّغ في الأوهام ولا يهمّه طلبُ الحقيقة. الحكومة والجمهور: كلّ طرف صنع الآخر على مقاسه واستمرأ لعبة المخادعة القاتلة إلى زمن يجفّ فيه ضرعُ الريع النفطي بعد خراب العراق.
إنّها لعنة كبرى أن تجد نفسك صاحياً وسط نيامٍ أتخموا بمال الفساد أو استطابوا السبات بفتات يتساقط من موائد المتخمين. لا شأن لهم بعراق أو عراقي أو مستقبل أو تقنية أو تطوّر أو صناعة أو زراعة.
هي لعنة كبرى لا علاج لها سوى رفع راية الإستسلام وتسكين النفس باليأس من العلاج. ترى الناس نياماً ويستعصي عليك النوم حدّ الموت. أهكذا تكون نهايتنا؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram