د. فالح الحمــراني
يعد الفساد في العراق من أكثر المشاكل حدة والمتجذرة بعمق في القطاع العام، وكما يتضح من التصنيف المنخفض للبلاد المؤشرات الدولية فانه يحتل المرتبة 140 من بين 180 دولة من حيث مستوى الفساد، واستشرى الفساد الحكومي وانتشر كورم سرطاني مميت في كافة مناحي جسد الدولة، وبات عاملا مهددا لأمن البلاد واستقرارها الاجتماعي والسياسي وتقدمها التنموي، علاوة على فقدان المجتمع الثقة بالنخب السياسية التي تخون التزاماتها وتحول المناصب الى مصادر للإثراء والتسلط وبسط النفوذ. ووفقا لموسوعة المصطلحات السياسية فإن الفساد هو انعدام النزاهة والأمانة (وخاصةً قابلية الرشوة)، واستغلال المنصب الرسمي لتحقيق مكاسب غير شريفة. والفساد هو إساءة استخدام المنصب الرسمي لتحقيق مكاسب شخصية. وللفساد أشكالٌ عديدة: الرشوة، واختلاس السلع والخدمات المخصصة للاستهلاك العام، والمحسوبية (إعطاء الأفضلية لأفراد العائلة وأبناء الطائفة والعشيرة في التوظيف)، والتأثير على صياغة القوانين واللوائح لتحقيق مكاسب شخصية، وجميعها أمثلة شائعة على سوء السلوك وسوء التصرف. وترتبط مكافحة الفساد ارتباطًا وثيقًا بتحسين نظام إدارة البلاد، أي بتحسين نظام تشكيل الحكومة وإدارة عملها.
وثمة إجماع على ان الفساد ينشأ في المجتمع المعاصر بسبب عدم كمال المؤسسات، وتقليص الشفافية، وانخفاض رواتب المسؤولين، وغموض القوانين، وضعف الثقافة القانونية لدى السكان. وللفساد تأثيرٌ مُدمّر على جميع مناحي المجتمع: الاقتصاد والحياة الاجتماعية والسياسة. ولا تقتصر عواقبه السلبية على إعاقة التنمية التقدمية والمستدامة للمجتمع فحسب، بل وتشكّل أيضًا تهديدًا خطيرًا لمصالح الأمن القومي للبلاد. ففي المجال الاقتصادي، يُسهم الفساد في ظهور وتطور عدد من الظواهر والعمليات السلبية: فهو يُعطّل آلية المنافسة في السوق، فالرابحون ليسوا من يُنافسون، بل من يحصلون على مزايا من خلال الرشاوى. وهذا يُسهم في ظهور نزعات احتكارية في الاقتصاد، مما يُقلل من كفاءته ويُقوّض مبادئ المنافسة الحرة. ويُؤدي إلى سوء توزيع أموال الموازنة العامة للدولة، وخاصةً في توزيع العقود الحكومية وتخصيص القروض، مما يُعيق التنفيذ الفعال للبرامج الحكومية. ويفضي إلى توزيع غير عادل للدخل الوطني، مما يُثري المتورطين في ممارسات الفساد على حساب أفراد المجتمع الآخرين، كما يُسهم الفساد في ارتفاع أسعار السلع والخدمات بسبب ما يُسمى "التكاليف العامة" المرتبطة به، وفي نهاية المطاف يُلحق الضرر بالمستهلك. فضلا عن ذلك يخلق الفساد الظروف المواتية لنشوء وتطور الجريمة المنظمة واقتصاد الظل. ويترتب على ذلك انخفاض عائدات الضرائب في ميزانية الدولة، وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج، ويُعيق قدرة الدولة على أداء وظائفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بفعالية.
وفي المجال الاجتماعي، تتمثل الآثار السلبية للفساد يؤشر الفساد إلى وجود تباين كبير بين القيم المُعلنة والممارسات الفعلية، ويتوجد معايير مزدوجة للأخلاق والسلوك بين أفراد المجتمع. وينجم عن ذلك أن المال يتحول الى مقياسًا لكل شيء في المجتمع، وتُحدد أهمية الفرد ومكانته الاجتماعية بحجم ثروته الشخصية، وبغض النظر عن كيفية اكتسابها. وهذا بدوره يخفض قيمة وانهيار الضوابط الاجتماعية المُتحضرة للسلوك البشري: المعايير الأخلاقية، والشريعة الإسلامية، والرأي العام، وغيرها، ويُسهّل الفساد كذلك إعادة توزيع الثروة بشكل غير عادل لصالح مجموعات ضيقة، مما يؤدي إلى زيادة حادة في تفاوت الثروة بين السكان، وإفقار شريحة كبيرة من المجتمع، وزيادة التوتر الاجتماعي في البلاد ومن تداعياته اُضعاف القانون كأداة رئيسية لتنظيم حياة الدولة والمجتمع. ويتشكل الرأي العام من خلال تصور أن المواطنين عُزّل في مواجهة السلطة وفي مواجهة الجريمة.
وفي المجال السياسي، تتمثل العواقب السلبية للفساد في كونه يُسهّل عملية تحول الأهداف السياسية من الأهداف الوطنية إلى ضمان حكم العشائر والمجموعات التي تستأثر بالسلطة بمختلف الاشكال، ويُصبح الأفراد الفاسدون الذين يُخفون رؤوس أموالهم في الخارج "طابورًا خامسًا" ويساهمون في خيانة مصالح الأمن القومي للبلاد.. إضافة لذلك يُقوّض الفساد مكانة الدولة على الساحة الدولية، ويُسهم في عزلتها السياسية والاقتصادية. ويُضعف الفساد ثقة الجمهور بالحكومة، ويُسبب خيبة أمل في القيم الديمقراطية، وقد يُسهم في الانتقال إلى نظام آخر أكثر صرامة من أنظمة الحكم: الدكتاتورية.
وتتمثل المسؤولية الوظيفية المباشرة للنخبة الحاكمة، وبالدرجة الأولى، القيادة العليا للبلاد، في إنشاء آليات سياسية وقانونية واجتماعية وثقافية، وغيرها، تخفض من تضارب المصالح بين الحاكم والمحكوم، وتقضي على أكثر أشكال هذا التضارب تدميرًا للمجتمع. إن فشل الطبقة السياسية في أداء هذا الدور والمسؤولية النظامية، وافتقارها إلى الإرادة السياسية لمكافحة الفساد بحزم وثبات، وتهيئة بيئة مواتية للفساد، وتربة خصبة لنمو الفساد الناتج عن تضارب المصالح بين الحاكم والمحكوم، وفقًا لقوانين التآزر، هو السبب الرئيس لهذا الخلل في الحوكمة في الدولة الحديثة.
وبالنظر إلى الدور المحوري للأسباب الجذرية للفساد في استمراره، يمكن تمييز الشروط والآليات الاجتماعية والإدارية الأساسية للحد من الفساد في المجتمع الحديث، وبالأخص في المجتمع العراقي، وتتحور في تطوير المجتمع المدني، وإنشاء أو تعزيز المؤسسات القادرة على مراقبة طبقة النخبة الحاكمة والسياسيين والبيروقراطية العلياو تشكيل آليات لانتخاب النخبة، تكفل تجديدها وتحفيزها وطنيًا وكفاءتها المهنية، مع الانتقال الفعلي من نظام المحاصصة الذي يعتمد على اختيار المناصب السياسية والإدارية العليا وفق الهوية، غالبًا بواسطة المحسوبية وليس المهنية، إلى نظام ريادي في تكوين النخبة.وتشمل الحلول تعزيز سيادة القانون، وزيادة الشفافية، والتحول الرقمي، والمراقبة المجتمعية، وزيادة رواتب المسؤولين، وتشكيل عدم التسامح مع الفساد في المجتمع، من خلال التأثير الشامل على جميع أسبابه. وتشديد حاد لمكافحة "فساد الموظفين"، والحمائية، وبيئة الفساد - المحسوبية - في ظل ثقافة المحسوبية السائدة في العراق. وهناك حاجة ماسة لدمقرطة المجتمع، وتطوير الديمقراطية التشاركية لتمكين المواطنين من المشاركة الفعالة والمباشرة في صنع القرارات العامة المتعلقة بشؤون حياتهم والمجتمع، متجاوزةً الديمقراطية التمثيلية التقليدية، عبر آليات تفتح الحوار وتشركهم في صياغة السياسات المحلية والوطنية، محولة الفرد من متلقي سلبي إلى شريك إيجابي في إدارة الحكم، وتعتبر المجتمع المدني ركيزة أساسية لنجاحها، وتمتد إلى جميع قطاعات المجتمع ضمن حدود لا تعرقل فعالية الحكم، وتوسيع المشاركة الحقيقية والواعية والكفؤة للجماهير في السياسة، والسيطرة على أصحاب السلطة على مختلف مستويات التنظيم الاجتماعي. وكذلك إنشاء نظام رقابة فعال على السياسيين والمسؤولين، مستقل عن الخاضعين للرقابة، بالاستفادة الإبداعية من التجارب الدولية الناجحة في مكافحة الفساد.
وضمن هذا السياق يكتسب نموذج سنغافورة لمكافحة الفساد المنهجي أهمية خاصة بالنسبة لبلدنا، إذ يضمن رقابة فعالة على السياسيين والمسؤولين من قبل المواطنين العاديين، ووسائل الإعلام، وأجهزة الأمن، والهيئات الحكومية الأخرى، وكذلك الجمهور. ويشمل هذا النموذج، على وجه الخصوص، الحد من افتراض براءة المديرين في مسائل الملكية والدخل، بالإضافة إلى الرقابة على دخلهم، ليس فقط، بل أيضًا على دخل أسرهم المباشرة، بمن فيهم أبناء عمومتهم؛ كما يتطلب اجتثاث الفساد ضمان أجور لائقة للسياسيين والمسؤولين والعاملين في القطاعين الطبي والتعليمي، وبعض الفئات الأخرى من العاملين، وتعزيز هيكل مصالح وقيم يجعل النشاط الفاسد غير مربح اقتصاديًا وخطيرًا وغير مقبول أخلاقيًا، الى جانب دمقرطة وسائل الإعلام، وضمان الوصول المباشر والمنهجي إلى وسائل الإعلام الجماهيرية التي تصل إلى الجمهور الوطني، وقبل كل شيء، إلى التلفزيون والمعارضة وجميع القوى السياسية التي تعترف بالدستور. إن ترسيخ هذا الوصول يمكن أن يكون عاملًا رئيسيًا، نوعًا من المحفز، قادرًا على تكثيف مكافحة الفساد وغيره من الأنشطة الهدامة في الإدارة العامة بشكل كبير.









