بغداد / علي الدليمي
بعد غياب تجاوز الثلاثين عاماً عن المشهد التشكيلي المحلي، سجل الفنان العراقي حسن عبود عودته البهية إلى أرض الوطن بافتتاح معرضه الشخصي الأول الذي حمل عنوان "سيرة ضوء"، وذلك مساء السبت على قاعة أكد للفنون.
المعرض، الذي يُعد محطة تأملية عميقة في مسيرة الفنان (مواليد 1956 ومحاضر سابق في قسم الكرافيك بمعهد الفنون الجميلة)، ضم أعمالا فنية، تنوعت بين عشرين لوحة أكريليك وخمس عشرة لوحة ورقية، تمثل خلاصة تجربة نضجت بعيداً لتعلن عن ولادة فنية مكتملة الملامح.
يقدم عبود في هذه العودة تجربة فنية تنحو بوضوح نحو التعبيرية التجريدية والتجريد الإيحائي، حيث يشير إلى أن اللوحة لديه "تمثل ولادة غير عبثية، بل ولادة مكتملة الملامح والنضوج، تعكس علاقتي بالأشياء وما يحيط بيّ". ويبرز في حديثه ما يُؤرقه من جدلية أزلية تتمحور حول المرأة بوصفها كائناً غضاً وجميلاً، وبين ما يمارس عليها من تسلط، وهي ثيمة تنعكس بوضوح على جمالية أعماله الفنية.
في قراءة نقدية سريعة لمجمل لوحاته المعروضة، يتضح أن الفنان يبني عالماً خاصاً يبتعد عن التسجيل المباشر للواقع، معتمداً على تكوينات غنية ومناطق لونية متداخلة تُشكل عالماً غامضاً وحالماً يفتح الباب لتأويلات متعددة.
الأسلوب يعتمد على تبسيط العناصر وتكثيفها إلى رموز وأشكال أولية، حيث تبرز هياكل أو أشباه كتل بشرية تسبح ضمن مساحات محيطة ذات ظلال داكنة وخلفيات ترابية، ليخلق هذا التناقض حواراً بصرياً قوياً بين الخيال والواقع الباطني.
تعد مفردة الرداء الأبيض المتميزة "لازمة" فنية في أكثر من عمل، وهي لا تمثل مجرد شكل عابر، بل هي نقطة ضوء ورمز للنقاء أو الحضور الروحي وسط عتمة المشهد العام، مما يوحي بمناخ من البحث أو العزلة أو المقاومة الصامتة.
هذا الرداء، إلى جانب الأشكال الغامضة التي تبدو وكأنها تطل من خلف حجب أو ستائر، يعزز الإحساس بالعمق الزماني والمكاني غير المحدد للوحة.
أما على الصعيد التقني واللوني، فإن التلاعب بالدرجات الداكنة (البنيات، الأسود، الكحلي الغامق) واللون الأصفر/الأخضر الترابي، يشكل قاعدة اللوحة التي تخلق جواً من الثقل والهدوء.
لكن عبود يكسر هذا الرصانة بلمسات لونية حارة ومشرقة (أحمر، أزرق، أصفر ساطع) مُركزة داخل الكتلة الداكنة، وكأنها انفجارات طاقة أو ومضات أمل درامية تخترق الجو العام، مانحة الأعمال تأثيرها العاطفي العميق.
يمكن وصف "سيرة ضوء" بأنها رحلة بصرية تأملية داخل أعماق الذات، تتسم بالتركيز العاطفي والتجريد الفلسفي.
الفنان حسن عبود، الذي شارك في العديد من المعارض والمهرجانات داخل وخارج العراق، لا يرسم ما يراه، بل يرسم ما يشعر به، مقدماً للمشاهد تجربة بصرية غنية بالتناقضات والرموز التي تحفز التأمل. إن هذا المعرض هو شهادة حية على نضوج تجربة فنية بقيت متقدة رغم سنوات الغياب الطويلة.









