نينوى / سيزر جارو
يشهد العراق منذ أكثر من تسعين عامًا تراجعًا مستمرًا في أعداد المسيحيين الذين شكّلوا جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي في شمال البلاد وبلدات سهل نينوى ومدينة الموصل ودهوك وأربيل وكركوك.
بدأت موجات الهجرة الكبرى بعد مجزرة سميل عام 1933، حين نفذ الجيش العراقي في العهد الملكي عمليات قتل وتهجير استهدفت القرى الآشورية. دفعت هذه الأحداث آلاف العائلات إلى الهجرة إلى سوريا ولبنان، فيما استقرّ آخرون في مناطق أكثر أمانًا داخل العراق، لتبدأ ما يمكن وصفه بـ«دورة نزوح مستمرة» ترافق المجتمع الآشوري – المسيحي منذ ذلك الوقت.
وخلال العقود اللاحقة، تأثرت القرى الآشورية بسياسات الدولة التي شهدت تحولات مع صعود نظام البعث ذي التوجه القومي، حيث تركزت الضغوط على مناطق نينوى عبر سياسات التعريب الجزئية والتحكم بالإدارة المحلية وغياب الدعم الاقتصادي والخدمي. ويقول الباحث زيا يلدا، في حديث خاص لـ«المدى»، إن «الهجرة لم تكن دائمًا نتيجة العنف المباشر، بل تراكمًا من فقدان الأمن وفرص العمل المحدودة، ما دفع الشباب إلى الانتقال إلى المدن الكبرى أو الهجرة إلى الخارج».
ومع بداية التسعينيات وتفاقم الحصار الاقتصادي، شهدت المدن الكبرى هجرة مكثفة، إذ لجأ كثيرون إلى أوروبا وأميركا الشمالية. وبعد سقوط النظام عام 2003، دخل المسيحيون مرحلة من عدم الاستقرار الشديد، مع تزايد الهجمات على الكنائس والممتلكات وعمليات الخطف والابتزاز، الأمر الذي دفع العائلات إلى مغادرة بلداتهم التاريخية. ويقول الأب سهيل القس موسى، كاهن في سهل نينوى، في حديثه لـ«المدى»: «الكثير من العائلات لم تكن مستعدة لمواجهة موجة العنف بعد 2003، خصوصًا في مناطق مثل تلكيف وبغديدا، ففضّلت الرحيل لحماية أبنائها».
وبلغ التراجع ذروته عام 2014 مع اجتياح تنظيم داعش لسهل نينوى والموصل، إذ أُفرغت مدن وبلدات بأكملها من المسيحيين خلال أيام قليلة. ووفق تقديرات المفوضية العليا لحقوق الإنسان، انخفض عدد المسيحيين من نحو 1.5 مليون قبل 2003 إلى ما يقارب 250 ألفًا اليوم. وفي حديث خصّ به «المدى»، يشير الأكاديمي في جامعة شمال إلينوي ايشو خوشابا إلى أن الرقم «يعكس ليس فقط الهجرة، بل فقدان الجيل الشاب للارتباط بالأرض»، الأمر الذي يهدد استمرار الهوية اللغوية والدينية.
ومع تحرير سهل نينوى عام 2018، ظهرت مبادرات مثل منظمة «كشرو – الجسر» باللغة السريانية، التي حاولت تشجيع الآشوريين – المسيحيين على الهجرة العكسية والعودة إلى قراهم وبلداتهم الأصلية، لكن الواقع الاقتصادي شكّل عائقًا رئيسيًا. وتقول سارة آوديشو، إحدى المتابعات لنشاط الآشوريين والمسيحيين في «الشتات الآشوري»، لـ«المدى»: «العودة كانت حلمًا، لكن كثيرًا من العائدين وجدوا أن فرص العمل محدودة، ولم يعد منطقيًا العودة إلى قراهم الأصلية، فاختاروا الاستقرار في عنكاوا حيث تتوفر الخدمات وفرص العمل». وتضيف: «المبادرة نجحت جزئيًا من حيث العودة الرمزية، لكنها لم تنجح في إعادة النسيج الاجتماعي والاقتصادي للقرى، ما يجعل استمرار الحياة هناك هشًّا».
ويرى بعض المختصين أن الحكم الذاتي المحلي قد يشكل حلًا لضمان استمرار الوجود الآشوري والمسيحي وحماية العودة. ويقول آرام سليم، المختص في شؤون أقليات الشرق الأوسط في جامعة سان دييغو، لـ«المدى» إن «تجربة الحكم الذاتي الجزئي في بعض مناطق دهوك وسهل نينوى يمكن أن توفر للأقليات أمانًا سياسيًا وقانونيًا، وتسهّل استثمار الأراضي والبنى التحتية، ما يتيح عودة حقيقية للعائلات المسيحية إلى قراها». ويضيف أن «وجود إدارة محلية آشورية مشتركة قد يحدّ من النزوح ويعزز الهوية اللغوية والدينية، خصوصًا إذا ترافق ذلك مع دعم حكومي مستدام».
ويشير سليم إلى أن «العودة اليوم تتطلب أكثر من الرغبة الفردية؛ فالأمن والفرص الاقتصادية والبنية التحتية هي التي تحدد قدرة أي عائلة على البقاء في قريتها». أما الباحث زيا يلدا فيختم بالقول: «الحفاظ على الوجود الآشوري والمسيحي في العراق لن يتحقق إلا من خلال سياسات مستدامة توفر الأمان وفرص العمل، وتضمن الحقوق التاريخية للسكان الأصليين، مع دعم مؤسساتي فعلي لمبادرات العودة».
ورغم كل التحديات، يستمر كثير من المسيحيين في الحفاظ على جذورهم من خلال اللغة والطقوس والكرنفالات التي تُقام في محاولة للحفاظ على حضورهم التاريخي في العراق وفي دول «الشتات الآشوري». ويجعل ذلك أي خطة مستقبلية للعودة أو الاستقرار مرتبطة بتضافر عوامل الأمن والاقتصاد والقانون، والانتقال نحو دولة قائمة على المواطنة لا على تحديد الفئات أو المحاصصة الطائفية.
تراجع الوجود المسيحي في العراق.. قرنٌ من الهزّات والنزوح والبحث عن استقرار

نشر في: 8 ديسمبر, 2025: 12:42 ص








