عصام الياسري
تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب، وفي لحظات التأمل. ولأنها لغة تتجاوز حدود الكلام، فقد حملت الموسيقى دائما قدرة فريدة على بناء الوجدان الجمعي وصياغة الهوية الثقافية للشعوب. وليست الموسيقى ترفا يمكن الاستغناء عنه، ولا الغناء زينة إضافية في حياة الشعوب. فمنذ أن عرف الإنسان الإيقاع، أدرك أن الصوت قادر على أن يحمل ما تعجز عنه اللغة: الفرح، الحزن، الاحتجاج، والرجاء. ولهذا كانت الموسيقى دائما مرآة لروح المجتمع، تكشف حيويته وتعدّد أصواته أكثر مما تكشف أي مؤشر آخر.
في حضارات الرافدين القديمة، كانت الموسيقى جزءًا من البنية الروحية والاجتماعية. تخبرنا الآثار السومرية والآشورية عن وجود آلات مثل القيثارة والعود، وعن احتراف موسيقيين كانوا يُعاملون باحترام، ويؤدّون أدوارا في الطقوس الدينية والاحتفالات الشعبية. وهذا دليل على أن الموسيقى لم تُعتبر يوما عنصرا هامشيا، بل كانت جزءًا من بنية المجتمع ووسيلة من وسائل الارتقاء بالوعي. وفي أرض الرافدين أيضا، لم تُولد الكتابة وحدها؛ بل وُلد معها الحسّ الجمالي الذي عبّرت عنه القيثارات السومرية والأناشيد التي رافقت طقوس الحياة. وعلى امتداد العصور الإسلامية،، لم تتوقف الموسيقى عن التطوّر رغم اختلاف المواقف تجاهها. فقد نشأت مدارس موسيقية عظيمة من الأندلس إلى بغداد، وتألّق فلاسفة وأطباء مثل الفارابي وابن سينا في تحليل تأثير الموسيقى على النفس البشرية، معتبرين إيّاها علما له قوانينه وقدرته على ضبط انفعال الإنسان وتهذيب الروح.
اليوم، ما زالت الموسيقى تؤدي الدور نفسه في المجتمعات المعاصرة : مساحة للتسامح، ومختبر للتنوّع، وجسرا بين الأجيال. والدول التي استثمرت في الفنون ليست أكثر شهرة وحسب، بل أكثر استقرارا وانفتاحا وقدرة على بناء مشترك ثقافي يفوق الانقسامات.
لكن الجدل الذي حدث حول حفل موسيقي ـ غنائي في مدينة البصرة العريقة بفهمها للثقافة والفنون كثيرا ما يتجاوز الفن ذاته ليلامس سؤالا آخر: ما الذي نخشاه حقًا من الموسيقى؟ أهي تهديدا للهوية أو العقيدة، أم تذكيرا بحيويتها؟
الجواب في حد ذاته، على هذا التساؤل العميق في مفهومه ومغزاه ـ لمن لا يرى المرآة إلا من خلف ظهره ـ يكمن في مفردات الحقائق التالية: الموسيقى لا تنتزع شيئا من أحد. هي إضافة، لا خصم. توسّع هوامش التعبير ولا تضيقها. وحيثما تُمنع، لا يتوقف الصوت بقدر ما يتقلّص المجال العام ويضيق الأفق.. إن منع حفلة قد يوقف حدثا واحدا، لكنه لا يوقف حاجة الناس إلى التعبير. فالموسيقى في جوهرها حقّ ثقافي، وفضاء للخيال، ومؤشر على أن المجتمع قادر على أن يسمع نفسه ويحتمل اختلاف نبراته. وحين تختفي الموسيقى من المشهد العام، يختفي معها شيء من صورة المستقبل الذي نريده أكثر رحابة ووضوحا.
في النهاية، يظل الغناء فعل حياة. وكل مجتمع يحتفي بالموسيقى هو مجتمع يقول ـ بطريقته الخاصة ـ إنه مستعد للوقوف في صف الجمال ضد الضجيج، وفي صف الإنسان ضد القسوة، وفي صف الأمل ولو تنوعت أصواته.
لا يوجد مجتمع متقدم اليوم يخلو من الموسيقى. فهي جزء من الثقافة المدنية الحديثة، وحاضرة في مجالات التعليم والعلاج والفن والاقتصاد. وتُظهر الدراسات أن المجتمعات التي تحتضن الإبداع والفنون هي الأكثر قدرة على التعايش، والأسرع تطوّرا في مجالات الفكر والعلوم. فالغناء ليس مجرد استمتاع، بل وسيلة لترسيخ قيم الجمال والانفتاح، ومجال تعبير يتيح للأفراد مشاركة مشاعرهم وتجاربهم. كما أنه جسر للتواصل بين الأجيال، يحفظ الذاكرة ويعيد تقديمها بصورة متجدّدة.
في عراق اليوم، حين يُثار الجدل حول الحفلات الموسيقية، بين الهوية والحرية الثقافية ـ فإن الأمر غالبا ما يتجاوز الغناء ذاته ليمسّ رؤية المجتمع لدوره الثقافي: هل نتقدم نحو مجتمع يوازن بين قيمه المحافظة وحقّه في التعبير الفني؟ أم نتراجع عن دور تاريخي جعل من وادي الرافدين مركزا للتنوير والإبداع؟
الموسيقى، في جوهرها، ليست تهديدا لهوية أحد؛ بل هي هوية في حدّ ذاتها. هي مرآة تُظهر حيوية المجتمع وقدرته على احتضان التنوّع. منعها لا يلغي وجودها، بل يحدّ من قدرة المجتمع على التعبير عن ذاته وعلى الاستفادة من أحد أهم عناصر القوة الناعمة.
إن الغناء والموسيقى جزء من تاريخ العراق والعالم، ومن نسيج الثقافة الإنسانية ككل. رفضهما أو التضييق عليهما لا يغيّر من حقيقة ـ أنهما عنصران أساسيان في بناء الحضارة وتقدّم الشعوب. فالأمم التي تحافظ على فنونها هي الأمم التي تدرك أن الإبداع ليس نقيضا للقيم، بل أحد أعمدتها، وأن الجمال ليس ترفًا، بل ضرورة روحية وثقافية تبني الإنسان وتدفعه نحو مستقبل أرحب.
المفارقة: إن الجدل حول حفل موسيقي هنا وهناك ـ لا يكون في جوهره عن الموسيقى نفسها، بقدر ما يكشف سؤالًا أعمق: كيف نرى حاضرنا؟ وكيف نريد أن نكتب مستقبلنا؟ هل نتعامل مع الفن بوصفه تهديدا، أم باعتباره لغة من لغات الحياة التي يصنع بها الناس مساحة مشتركة للتعبير؟









