TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

نشر في: 9 ديسمبر, 2025: 12:02 ص

احمد حسن

تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع منطق السوق المنفلت ويتخلى عن أي تصور للجماعة السياسية.
يمكن النظر الى مشروع محمد شياع السوداني الرئيس المنتهية ولايته منذ انتهاء انتخابات نوفمبر2025، الممتد على أثر سابقيه من إبراهيم الجعفري مرورا بنوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي، كأعلى مراحل الانتقال الذي جعل من الخصخصة بوابة لوجود الدولة العراقية نفسها، وما كان يقدم باعتباره مشروع تنمية وإعمار، لم يكن في أصلها إلا نقلا للدولة من مستوى السياسة إلى مستوى الاقتصاد، لدرجة ان القرار العام، يتحرك داخل قاعدة هي أقرب إلى شركة او مول تجاري يعمل على تحديد جديد يكون فيه المواطن بوصفه زبون، والمؤسسات الدولة بوصفها منافذ استثمار ربحية ترد أموالا للفئة الحاكمة.
ينشأ مع هذا الانتقال الجذري وضعية جديدة للحكم في العراق الذي لا تقوم على الشرعية الوطنية أو الروابط الاجتماعية اطلاقا، وانما يقوم على قدرة السوق على ابتلاع كل ما يحيط به، ويمكن ضرب مثال على ذلك في مؤسسات التعليم التي كانت يوماً نموذجاً للعدالة الاجتماعية حتى أضحت الى سلعة تتحدد قيمتها بالأموال. كما ايضا قطاع الصحة التي فقدت وظيفتها العمومية وتحولت الى امتداد لاقتصاد المخاطر واضحى المواطن ان يعالج في المستشفى حصرا لمن يستطيع الدفع غير ذلك يموت، بالتالي أصيبت البيروقراطية بإرهاق جذري جعلها ظلاً بارداً لمؤسسات أهلية إقطاعية عائلاتي جشعة تتوسع بلا حدود.
هذا الانزياح عن المجال العمومي لم يكون محصورا في مؤسسات الدولة. هذا الانزياح اذ تسلل إلى البنية الدقيقة للحياة اليومية ووصل الى الروابط العائلية. وانتقلت الروابط داخل العائلة من الاعتماد الأصلي على منطق المعنوي إلى منطق المنفعة. وأضحت العائلة مما كانت عليه كمركز حيوي للقيم المشتركة الى التكيف مع اقتصاد ومنفعة اللحظة. كما ان العشيرة باعتبارها العائلة الكبرى أيضا انتقلت من إطار الحماية المعنوية وتحولت الى معادلة حسابية تبرد فيها العلاقات إلى فرص فورية. وبالتالي يمكن القول إن النيوليبرالية تبنتها الأحزاب والتيارات الشيعية بالشراكة مع قوى سياسية سنة وكوردية لم تكتف في ما يعرف بـ "هندسة الدولة" وانما شملت بذلك إعادة تصميم المخيال الاجتماعي للعراقي الذي اضحى مشدودا إلى اقتصاد البقاء لشعوره بالعيش في بيئة تتطلب منه أن يكون منافساً طماعا وكاذبا وغشاشا وبشعاً قبل أن يكون مواطناً عراقيا وإنسانا بنهاية المطاف.
بعد عقدين من هذا المسار ظهرت النتائج بوضوح. منها الدولة تفقد مركزها المعنوي أمام الشركات مما أدى إلى تآكل الجامعات الحكومية وتراجع حضورها العلمي أمام الجامعات الأهلية التي تضخمت بوصفها مشاريع ربحية تدر بجيوب ازلام السلطة الحاكمة في العراق. وثم المستشفيات والمدارس العامة التي انزلقت إلى حالة من التهالك جعلتها أقرب إلى هياكل قديمة لا تنتج رعاية ومعرفة تربوية. ثم الفقر نفسه تم تغييره من حالة اجتماعية إلى ان أصبح شرطاً بنيوياً يضع طبقات واسعة خارج الزمن العراقي الجديد. اما الطبقة الوسطى من الموظفين العاملين التي كانت حاملةً للتوازن الاجتماعي تآكلت حتى أصبحت طيفا هشاً. بالتالي الفقير وذو الدخل المتوسط لن يعدا قادران على مقاومة الحياة الطبيعية السابقة في ظل نظام حكم تبنى النيوليبرالية الذي يطلب منه ثروة قبل أن يمنحه حقاً او اشعاره بمواطنته العراقية.
تحت ضغط هذه البنية النيوليبرالية، المجتمع ينفصل تدريجياً عن منظومته الأخلاقية. لم يعد العراقيون يهتمون إلى ما يدور حول الحلال والحرام، او حول العيب والمقبول اجتماعيا، حول الحق والباطل.. لدرجة التحول الجديد صار العراقيون يهتمون حول القدرة على الاندماج في السوق حتى لو كان على حساب التخلي عن القيم واستبدالها بسلوكيات خالية من الاخلاق. اضحى الهدف العراقي في الحياة نيوليبرالية هو اثبات وجد باي ثمن كان، لذلك وجدوا انفسهم مضطرين في التخلي عن كثير من قيمها سواء كانت الدينية او الاجتماعية وحتى الوطنية أحيانا كثيرة كي لا يبقون خارج ايقاع نيوليبرالية. لذلك ان القيم التي كانت تشكل الذاكرة العراقية تم تجريدها من معناها لصالح براغماتية قاسية وجشعة وبلا اخلاق تبرر كل شيء ما دام يوفر مورداً، وهذه هي اعلى مستوى لما يعرف في نجاح الحياة نيوليبرالية.
ان الأحزاب والجماعات المسلحة بدورها خرجت من دائرة الإيديولوجيا إلى دائرة الاقتصاد المنفلتة من القيم. بالتالي لم يعد يمثلون مشروعا عقائديا وسياسيا بقدر ما أصبحوا عبارة عن شبكات زبانية واستثمارية متخفية في لغة الإيمان. لذلك نجد ان اقتصاد الحرب تطور إلى اقتصاد نفوذ وهيمنة أحيانا إلى حد ممارسة العبودية. كما ان نيوليبرالية في العراق حولت الهوية المذهبية إلى رأسمال سياسي تعمل وفق قواعد السوق بصرامة. هكذا ولد نظام هجين لدولة عراقية تضعف باستمرار أمام مقاولين وشركات ومصارف وبنوك تتوسع بلا قيود ومجموعات دينية وعشائرية ومسلحة اكتشفت أن الربح أقوى من الولاء وأن الريع أمتن من العقيدة.
بهذه الصورة يمكن القول إن العراق لم يدخل في مشروع تنمية، العراق قد دخل في مشروع اعادة تصميم الهوية الجماعية، وفق منطق قيم السوق، لا وفق قيم المواطنة والانسانية. وما يسمى تنمية ليس إلا تفكيكا لهيكل الدولة وتحويلها إلى كيان قابل للتأجير. وأيضا ما يسمى إعماراً ليس إلا تحويلًا للسياسة إلى نشاط تجاري خالي من الإنسانية والاخلاق. بالتالي نظام الحكم المتنفذ في العراق لم ينتج نموذج إدارة حكم مؤسساتي.. وفهذه الأحزاب أنتجت نظاما اقتصاديا يتزيا بلباس السياسة، نظاما اعادتصميم المجتمع العراقي وفق معادلة توزع السلطة والثروة خارج فضاء العدالة.
ومع هذه الوضعية، ما الذي يبقى من الدولة عندما تتحول إلى شركة؟ وما الذي يبقى من المجتمع عندما يتم ابتلاع أخلاقه في اقتصاد جشع بلا ذاكرة؟ هذه الاسئلة في طبيعتها لم تكن محلية صرف فهي اسئلة تاريخية عالمية عن تحولات السلطة عندما تتخلى عن مسؤوليتها المعنوية وتتسلم الى منطق السوق بمهمة تحديد مصير البشر.
هذا التغيير لا يمكن فهمه إلا باعتباره انحراف الدولة في الاعتماد على المؤسسة، واستبدال السياسة في الصفقة، والتخلي عن المعنوية والاعتماد على الفائدة. والعراق يعيش اليوم تجربة تحويل الوجود الإنساني إلى مادة اقتصادية منفصلة عن القيم والأخلاق، وهذه لحظة لا يمكن ميزانها بالأرقام وحدها، لحظة تقاس بانكسار القيم واضمحلال المساحة العمومية وتحول المواطن العراقي إلى كائن يبحث عن خلاص فردي في بلد لم يعد بعد الان يعترف بالجماعة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram