TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

نشر في: 9 ديسمبر, 2025: 12:03 ص

سعد سلوم

بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة بدعوة رسمية من الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي استثمرها لإبراز تعددية تركيا الدينية والثقافية، وتعزيز مكانتها الدولية كجسر بين الشرق والغرب وكمثال عملي للتعايش الديني والاجتماعي. وفي المقابل، تكشف المقارنة مع العراق، الذي لم يستثمر زيارة البابا فرنسيس السابقة، عن فرصة ضائعة لتعزيز صورة الدولة، حماية الأقليات المسيحية، وإبراز دور العراق كطرف معتدل قادر على لعب دور الوسيط في المنطقة.
في خطاباته، دعا البابا إلى تعزيز التواصل والرحمة بين شعوب وديانات وخلفيات اقتصادية مختلفة، وانتقد الانعزال الاجتماعي والاقتصاد الاستهلاكي، داعيا إلى بناء ثقافة تقدر العلاقات الإنسانية، مع التركيز على السلام، مكافحة الفقر، والحفاظ على البيئة. تجسد هذه الرسائل دعوة واضحة للتسامح الديني والعيش المشترك، وهو ما استثمره أردوغان على الصعيد الداخلي والخارجي لتعزيز صورته السياسية والدبلوماسية.
اختيار تركيا كبداية للزيارة قبل دول عربية أو خليجية مثل العراق أو الإمارات أو مصر يحمل دلالات استراتيجية واضحة. تركيا ليست مجرد دولة ذات أغلبية مسلمة، بل بلد غني بالتراث المسيحي والتاريخي، من كنائس نيقية ومواقع مرتبطة بالكنيسة المبكرة إلى ذكرى مجمع نيقية الأول، ما يمنح الزيارة بعدا رمزيا يربط بين التاريخ المسيحي والرسالة المعاصرة للفاتيكان.
على الصعيد الدبلوماسي، تظهر تركيا نموذجا عمليا للتعددية الدينية، حيث تتعايش المساجد والكنائس والمعابد اليهودية جنبا إلى جنب، ما يتيح عرض تجربة ملموسة للتسامح الديني أمام العالم. الأرضية المستقرة نسبيا للزيارة سمحت بتنظيم احتفالات عامة واجتماعات مع قيادات دينية متعددة دون عراقيل كبيرة، وهو أمر يصعب تحقيقه في دول الخليج أو مصر بسبب القيود السياسية والدينية وحساسية الأقليات المسيحية. يرسل هذا الاختيار رسالة مزدوجة: الغرب يرى دولة مسلمة معتدلة قادرة على لعب دور الوسيط، بينما يطمئن العالم الإسلامي إلى احترام التاريخ المشترك والحوار البناء بعيدا عن الصراعات الطائفية والسياسية.
من زاوية المقارنة الإقليمية، تبرز زيارة البابا إلى تركيا كفرصة استثمرها أردوغان بشكل مثالي لتعزيز مكانة بلاده داخليا وخارجيا، بينما تبدو زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، أو أي زيارة محتملة للبابا الجديد، فرصة ضائعة لم تُستفد منها لتعزيز صورة الدولة، حماية الأقليات المسيحية، وإبراز العراق كطرف معتدل قادر على لعب دور الوسيط في النزاعات الإقليمية. العراق يمتلك تاريخا مسيحيا عريقا وتنوعا دينيا غنيا، لكنه لم ينجح بعد في تحويل هذه الزيارات إلى مكاسب سياسية ودبلوماسية ملموسة.
في المجمل، تعكس زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى تركيا قدرة الدولة على الجمع بين التاريخ المسيحي والحوار المعاصر بين الأديان، واستثمار هذه الزيارة لتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية واضحة، بينما تبرز المقارنة مع العراق الحاجة إلى استراتيجيات أفضل لاستثمار الفرص لتعزيز التعددية الدينية، حماية الأقليات، وتعزيز الدور الدولي والوسيط للبلاد.
زيارة البابا تمثل مكسبا سياسيا ودبلوماسيا للرئيس أردوغان، يمكن تلخيصه في عدة مستويات. أولاً، تعزز الزيارة رسالة التسامح والتعددية الدينية في تركيا، على نحو يخفف بعض الانتقادات الداخلية تجاه سياسات الحكومة المحافظة، ويبرز أردوغان كقائد قادر على تحقيق توازن بين الأغلبية الدينية وحقوق الأقليات. ثانيا، تعزز الزيارة صورة تركيا على الساحة الدولية كدولة معتدلة ومنفتحة، قادرة على لعب دور الوسيط بين الشرق والغرب، وتتيح لها تبوؤ موقع استراتيجي في الصراعات الإقليمية والدبلوماسية العالمية. ثالثًا، الاحتفالات الرسمية، الاجتماعات مع القيادات الدينية والمجتمع مدني، واللقاءات مع البطريرك المسكوني برثلماوس الأول، تعطي دفعة كبيرة لـ"الدبلوماسية الدينية والنوايا الحسنة"، وتظهر تركيا كطرف يسعى لتعزيز التفاهم في منطقة مضطربة، حيث الصراعات الدينية والعرقية لا تزال قائمة.
اختيار تركيا كبداية للزيارة رغم قلة عدد الكاثوليك فيها يعكس أيضا رغبة البابا في ربط التاريخ المسيحي بالرسالة المعاصرة للفاتيكان حول الحوار والتعايش بين الأديان، قبل توجهه الى لبنان، حيث يعكس السياق الجيوسياسي الحساس الحاجة إلى رسائل قوية حول السلام والتعاون الديني في مواجهة التوترات مع إسرائيل والهجمات المتكررة على جنوب لبنان.
مع إن الزيارة قدّمت لأردوغان مكاسب سياسية مهمة، إذ عززت صورته كزعيم قادر على إدارة مجتمع متعدد الثقافات، ورسّخت خطاب التسامح والتعايش بين مكوّنات الدولة. لكن هذا البعد الإيجابي لم يمنع ظهور ردود فعل معارضة رأت في الزيارة مساحة مفرطة للرمزية الدينية المسيحية على الساحة العامة، الأمر الذي أثار حساسية لدى بعض التيارات القومية.
وقد برز هذا الجدل في موقف ديفلت باهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية وحليف أردوغان، الذي انتقد بعض فعاليات الزيارة، واعتبر الاحتفالات الدينية في أزنيق (نيقية القديمة) وإسطنبول رسائل سياسية مقنّعة تتجاوز الطابع البروتوكولي. واستعار باهتشلي المثل الشعبي "لا فائدة من بيع الحلزون في حي مسلم" للتعبير عن رفضه لما يراه محاولات للتأثير على البيئة الدينية في تركيا. كما شدّد على أن مسألة إعادة فتح معهد هالكي اللاهوتي (رمز التراث الأرثوذكسي الذي خرج عبر تاريخه أجيالًا من البطاركة والإكليروس الأرثوذكس) شأن سيادي خالص، وأن أي ضغوط خارجية في هذا الملف تُعدّ مساسا بكرامة الدولة.
على المستوى الإقليمي، تبرز الزيارة بوصفها مثالا لما يمكن أن يعدّ فرصة مهدورة للعراق. فبلاد الرافدين، رغم إرثها المسيحي العميق وتنوّعها الديني الواسع، لم تنجح في تحويل زيارة البابا فرنسيس (الحدث التاريخي الذي حظي باهتمام عالمي) إلى رصيد سياسي أو دبلوماسي يعزّز صورتها كدولة قادرة على حماية الأقليات وصون التعددية. وفي المقابل، استطاع أردوغان توظيف الزيارة في بناء سردية سياسية تخدم تركيا على المستويين الداخلي والخارجي، مقدّمًا بلاده كقوة منفتحة، معتدلة، وقادرة على إدارة تنوّعها الديني بثقة. وهنا يبرز التناقض بوضوح: بينما تحوّل تركيا حدثًا رمزيًا إلى مكسب استراتيجي، ما يزال العراق عاجزًا عن استثمار مثل هذه اللحظات لإظهار نفسه لاعبًا إقليميًا جديرًا، قادرًا على تقديم نموذج للتعايش يُعتدّ به في منطقة تموج بالانقسامات.
باختصار، زيارة البابا لتركيا ليست مجرد حدث ديني، بل أداة سياسية ودبلوماسية استراتيجية استثمرها أردوغان لتعزيز الدور الدولي لتركيا، في حين تُبرز المقارنة مع العراق ضعف الاستغلال السياسي والدبلوماسي لمثل هذه الزيارات لتعزيز صورة الدولة وحماية التنوع الديني داخليًا وخارجيا.
ورغم الأصداء الواسعة للزيارة، يبقى بعض المراقبين مترددين إزاء دوافعها، معتبرين أن استضافة شخصية دينية بهذا الوزن قد تمثل محاولة لإعادة تموضع سياسي ودبلوماسي أكثر مما تعكس رسالة سلام خالصة. داخليا، تمنح الزيارة أردوغان فرصة لتعزيز صورته لدى الفئات التي ترى في تركيا بلدا يحتضن تنوعا ثقافيا ودينيا، في حين تثير تحفظات لدى التيارات القومية والدينية التي تنظر إلى استقبال البابا بوصفه مساسا بالشؤون الدينية للمسلمين. وقد تحاول بعض قوى المعارضة استثمار الحدث لاتهام الحكومة بالمبالغة في الانفتاح على الأقليات، فيما يسعى أنصارها إلى تقديم الزيارة كدليل على اعتدال الدولة وقدرتها على تحقيق توازن دقيق بين مكوّناتها.
اجتماعيا وثقافيا، تحمل رسائل البابا الداعية للتسامح واحترام الأقليات إمكانية إيجابية لتعزيز التعايش وتقليل الاحتقان بين الفئات الدينية المختلفة. ومع ذلك، قد تنظر المجتمعات المحافظة إلى هذه الفعاليات بوصفها رمزية حساسة تستلزم إدارة حكومية دقيقة لضمان عدم تحولها إلى مصدر توتر أو سوء فهم.
على المستوى الديني، تفتح اللقاءات بين البابا والبطريرك المسكوني وأردوغان المجال لمبادرات مشتركة بين الكنائس وتعزز الحوار بين الأديان. ومع ذلك، تظل أي خطوات نحو إعادة فتح مؤسسات دينية مثل معهد هالكي اللاهوتي مسألة حساسة داخليا، وتتطلب توازنا دقييقا بين حقوق الأقليات المسيحية ومشاعر الأغلبية المسلمة لتجنب ردود فعل معاكسة.
من منظور إقليمي أوسع، تكشف زيارة البابا لتركيا عن قدرة أنقرة على تحويل حدث رمزي إلى مكسب سياسي ودبلوماسي، إذ نجح أردوغان في توظيفها لإبراز بلاده كمنفتحة على التعددية وفاعلة في مسار الحوار بين الأديان. وعلى النقيض، بدت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق فرصة لم تُستثمر كما ينبغي، إذ لم تُترجم إلى خطوات تعزز صورة الدولة أو تحمي حضور المسيحييين، ولا إلى مبادرة تُظهر العراق طرفا معتدلا قادرا على لعب دور الوساطة في المنطقة.
في النهاية، تبدو التجربتان كمرآتين متقابلتين: الأولى تُظهر كيف يمكن لدولة أن تمزج بين إرثها التاريخي ومصالحها السياسية لتنتج خطابا متوازنا ومؤثرا، والثانية تكشف حاجة العراق إلى رؤية أوضح واستراتيجيات أكثر فاعلية لاستثمار أحداث مشابهة في ترسيخ التعددية الدينية، وتعزيز الأمن الاجتماعي، وتثبيت موقعه على الخريطة الدبلوماسية الإقليمية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram