جورج منصور
في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة ليست رفاهية، بل حاجة وجودية. ورغم امتلاك العراق إرثاً ثقافياً يمتد لالآف السنين، فإن حضور الكتاب في الحياة اليومية ما زال يعاني تراجعاً واضحاً؛ وهنا تتجلى أهمية المعرض كفعلٍ ثقافي يُعيد للكتاب مكانته ويُعيد للمجتمع شهيته للمعرفة.
لا يُنظر إلى معرض الكتاب باعتباره مجرد سوقاً كبيرة لبيع الورق المطبوع. فحين يُدار بوصفه مشروعاً وطنياً، يتحول إلى مهرجان للوعي وفضاء يلتقي فيه الكاتب والقارئ والناشر، وتتشكل فيه علاقات جديدة بين المجتمع والكتاب. هذه الفضاءات تعيد للثقافة حضورها في الشارع، وتجعل من القراءة نشاطاً جماعياً احتفالياً، لا مجرد عادة فردية صامتة.
لا تعاني القراءة في العراق من ارتفاع الأسعار ونقص المكتبات فحسب، بل تعاني أيضاً من تغيّر أنماط الحياة وسيطرة الشاشات. وهنا يأتي دور معارض الكتب في تقديم الكتاب مجدداً بوصفه خبرة حسية جذابة: أروقة ممتدة، وألوان الأغلفة، وروائح الكتب، وأحاديث القرّاء. هذه البيئة وحدها كفيلة بتذكير الزائر بأن الكتاب ليس منتجاً قديماً تجاوزه الزمن، بل جزءاً من حياته وهويته.
كما أن المعرض يوفر عناوين جديدة يصعب العثور عليها في المكتبات التقليدية، بينما تتيح الخصومات فرصاً حقيقية لاقتناء الكتب. هذه التفاصيل البسيطة هي التي تجعل الطفل أو الشاب يشعر بأن شراء الكتب الجديدة أمر طبيعي وممتع، لا مهمة مالية مرهقة. ومن خلال هذا الشعور تنمو عادة القراءة، لا عبر الوعظ والتلقين.
تعيش صناعة النشر العراقية منذ سنوات ضغوطاً متزايدة بسبب ارتفاع تكاليف الطباعة وضيق الأسواق وتراجع الاهتمام بالكتاب الورقي. ومعارض الكتب تمثل لدور النشر رئة تتنفس من خلالها؛ ففي أيام المعرض القصيرة، تتحقق مبيعات قد تساوي مبيعات أشهر كاملة، وتُبنى علاقات جديدة بين الناشرين، وتُعقد اتفاقيات الترجمة وإعادة طباعة.
وللكتّاب، خاصة الجدد منهم، تُعدُّ المعارض مساحة حرة للظهور والحوار. كثير من الأسماء الأدبية المعروفة اليوم بدأت رحلتها من منصة توقيع في معرض كتاب، حيث التقت قراءها للمرة الأولى. وهو مشهد لا يمكن أن يتكرر رقمياً مهما حاولت المنصات الإلكترونية محاكاته.
لا ينمو الوعي من الكتب وحدها، بل من النقاش الذي تولّده. ولهذا، فإن الندوات والحوارات والمحاضرات التي ترافق المعرض تشكل الوجه العميق لهذه الفعالية. ففي قاعة صغيرة داخله، قد يلتقي صحفي مع مفكر، أو باحث مع ناشط اجتماعي، ليناقشوا قضايا تتعلق بالحريات والهوية ومستقبل الشباب. هذه الحوارات قد لا تُغيّر العالم فوراً، لكنها تغيّر زاويا النظر، وتمنح الجمهور أدوات لفهم واقعه.
بل إن كثيراً من الشباب واليافعين يجدون في ورش الكتابة والإعلام والفنون داخل المعرض شرارة الحلم؛ فمنها تنشأ رغبة في الإبداع، وأحياناً تتحدد مسارات مهنية كاملة انطلاقاً من سؤال يطرحه طفل على كاتب عن سر الرواية أو معنى الشعر.
وحين يستضيف المعرض دور نشر من دول أخرى، فإنه لا يُقدم كتباً فحسب؛ بل يستضيف أفكاراً وأساليب حياة وتجارب إنسانية مختلفة. فالترجمة وحدها جسر طويل بين الحضارات، والمعرض يفتح لها البوابة واسعة. في لحظة عابرة، قد يلتقط قارئ كتاباً مترجماً من جناح دولة بعيدة، ليفتح له نافذة على أدب جديد أو فلسفة مختلفة. هذه اللحظات الصغيرة تترك أثراً كبيراً على المدى الطويل، فتغرس في الناس حسّاً إنسانياً يتجاوزالجغرافيا، وتُعزز قيم التسامح والانفتاح.
ولا يُغفل الجانب الاقتصادي؛ فكل معرض كتاب هو حركة اقتصادية متكاملة: وظائف مؤقتة، وشركات تنظيم، ومطابع، ودور نشر، وفنادق ومطاعم، وإعلام يغطي الحدث. وبهذا يترسخ في الوعي الجمعي أن الثقافة ليست كمالية، بل قطاع حيوي قادر على خلق فرص العمل وتحريك الاقتصاد.
والأهم من ذلك، أن المعرض يولد شعوراً عاماً بأن المجتمع يحتفل بالمعرفة، وأن الدولة، حين ترعاه، تعترف ضمناً بأن الثقافة عنصر أساسي في التنمية.
لماذا نحتاج المعارض اليوم أكثر من أي وقت؟
في زمن تنتشر فيه المعلومات السطحية، وتتنافس عليه وسائل التواصل، وتستسلم فيه العقول للضجيج، تبدو معارض الكتب فعلاً مقاوماً. إنها تقول لنا: هنا مساحة للتفكير، وزمن بطيء يسمح لك بالاختيار، ولقاء بين أجيال وأفكار. هنا مجتمع يقرر أن يرفع رأسه قليلاً فوق الغبار.
ولذا فإن الحفاظ على هذه المعارض وتطويرها، هو استثمار في المستقبل. فالمجتمعات التي تحتفي بالكتاب تُنتج مواطنين أكثر وعياً، وتبني قاعدة معرفية أقوى، وتخلق فضاء ثقافياً قادراً على مواجهة التحديات. المعرض ليس حدثاً عابراً؛ بل إعلان ثقافي بأننا ما زلنا نراهن على العقل، ونؤمن بأن المعرفة طريق حقيقي نحو نهضة ممكنة.
لماذا نعود إلى الورق في زمن الذكاء الاصطناعي؟
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا حتى تكاد تسبق أنفاسنا، وأصبحت الخوارزميات بواباتنا إلى المعرفة والترفيه والتواصل، يبدو غريباً أن يعود الإنسان إلى الكتاب الورقي؛ هذا الكائن الهادئ القادم من أعماق الماضي. لكن المفارقة أن حضور الورق لم يخفت، بل ازداد قوة ووضوحاً، وكأنه يرفع صوته وسط ضجيج الآلات ليُذكّرنا: للمعرفة روح، وللقراءة طقوس لا يكتبها الضوء الأزرق.
فللكتاب الورقي سحر لا يُختزل: الملمس، ورائحة الصفحات، وصوت تقليبها يمنحون القارئ علاقة حسّية لا توفرها الشاشات. إنها علاقة فطرية بين اليد والعين والحواس، تعيد تشكيل القراءة كتجربة جسدية ونفسية معاً. فالورق لا ينقل النص فقط، بل ينقل دفئاً وهدوءاً تستعيد بهما الروح قدرتها على الإصغاء.
وما ينقص القارئ في العصر الرقمي هو التركيز العميق؛ فقراءة الشاشة مغامرة مليئة بالمقاطعات والإشعارات. أما الكتاب الورقي فيمنح قارئه بيئة صامتة، محايدة. لذا يصبح الورق ملاذاً للمعلومة التي تحتاج إلى تأمل.
وتكشف الدراسات أن القراءة الورقية تترك أثراً معرفياً أعمق؛ فالصفحة المطبوعة تثبت الأفكار في الذهن كما تثبت الكلمات على الورق. حركة الأصابع فوق الصفحات، وتحديد الجمل بالقلم، وطيّ الزوايا للعودة لاحقاً، كلها ممارسات تمنح الدماغ "خرائط" للمعلومات تساعد على التذكر. هكذا يتحول الكتاب إلى كائن معاش، لا مجرد نافذة رقمية تزول بانطفاء الشاشة.
والكتاب الورقي يحمل قيمة تتجاوزالمعرفي؛ فهو شاهد على ذائقة القارئ واهتمامه بفنون الطباعة والتجليد. مكتبة المنزل ليست أرشيفاً فحسب، بل هوية ثقافية. الوقوف أمام رفوف الكتب يشبه الوقوف أمام مرآة صامتة تروي حكايات أصحابها.
وثمة شعوريخالج الكثيرين اليوم: رغبة في استعادة السيطرة أمام الهيمنة الرقمية. القراءة الورقية تصبح هنا نوعاً من المقاومة، طريقة للحفاظ على إيقاع بشري في عالم أصبحت سرعته لا تطاق. فحين يفتح القارئ كتاباً ورقياً، فإنه يستعيد مساحته الطبيعية.
القراءة الورقية ليست مجرد معرفة فقط؛ بل ممارسة للهدوء. الوقت بين الصفحات المطبوعة يصير مساحة للتأمل وخفض التوتر. كثيرون يجدون في الكتاب الورقي علاجاً من تشتت اليوم الرقمي، وانفصالاً إيجابياً عن الأجهزة.
ولا تزال معارض الكتب، وتوقيعات المؤلفين ونوادي القراءة تشكل عالماً حياً لا يعوَّض رقمياً. فشراء كتاب ورقي أو تلقيه هدية يحمل طقوساً ومشاعر لا تُستنسخ بضغطة زر. هذه الحياة الاجتماعية حول الكتاب تسهم في استمرار جاذبيته الأبدية.









