عصام الياسري
لم تكن انتخابات 11 تشرين الثاني 2025 سوى محطة جديدة في مسار سياسي مرتبك يعيشه العراق منذ سنوات طويلة. فمع أن العراقيين توجهوا إلى صناديق الاقتراع أملاً في إحداث تغيير حقيقي، إلا أن ما تلا الانتخابات أعاد البلاد إلى دائرة الصراع التقليدية نفسها، حيث تُدار السياسة بمنطق التحالفات الطائفية، وتُوزَّع المناصب من خلف الأبواب المغلقة، وتُعاد صياغة شكل الحكومة وفق موازين النفوذ الداخلي والخارجي، لا وفق إرادة الشعب.
وعلى ما يبدو، بعد أن أرسلت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، يوم الإثنين 2025-12-08، النتائج النهائية للانتخابات التشريعية بدورتها السادسة إلى المحكمة الاتحادية العليا (أعلى سلطة قضائية في العراق) لغرض المصادقة عليها، بعد أن طال العديد من الفائزين من مختلف الكيانات والأحزاب، الاستبعاد، أصبح الصراع على المواقع أكثر تعقيدا فالانتخابات أسفرت عن نتائج متقاربة لا تمنح أي كتلة القدرة على تشكيل حكومة – بمفردها -. وهذا يعني بداية سباق معقد على الوزارات السيادية والخدمية، حيث تسعى القوى التقليدية لإعادة تثبيت نفوذها داخل مؤسسات الدولة، بينما تجد الكتل الصاعدة والمستقلون أنفسهم محاصرين بين تحالفات تضغط عليهم للانخراط في منظومة المحاصصة...
وفيما المشهد لم يكن مختلفاً كثيراً عن الدورات السابقة: اجتماعات مكثفة، تفاوض متواصل، وتسويات غالباً ما تجري تحت تأثير الدعم الإقليمي ـ والخارجي ـ وتتجاوز خيارات الناخب ومصالح الناخبين لتحصّن مصالح القوى والاحزاب الفاعلة الماسكة بالسلطة. لا يمكن تجاهل أن بعض القوى الإقليمية لعبت دوراً بارزاً في نتائج الانتخابات، سواء عبر دعم أحزاب طائفية مادياً أو إعلامياً أو تنظيمياً، أو عبر التأثير غير المباشر على الرأي العام. هذا الدعم جعل من بعض الأحزاب أدوات تتنافس بها الدول الإقليمية لتثبيت نفوذها داخل العراق، ما أفقد الانتخابات جزءاً من استقلاليتها الحقيقية. فالدول المتنافسة وجدت في العراق مساحة لتثبيت مصالحها، بينما وجد بعض السياسيين في الدعم الخارجي طريقاً سريعاً للسلطة، ولو كان الثمن إضعاف القرار الوطني.
وفي الواجهة لمسرح الاحداث، لا تتوقف مظاهر الضغوط الدولية في صياغة التداخل في المشهد العراقي بين كل من النفوذ الإيراني والضغط الأميركي ـ فإيران، ذات النفوذ العميق داخل بعض القوى السياسية، تسعى للحفاظ على حضورها الاستراتيجي في البلاد. في المقابل، تعمل الولايات المتحدة على موازنة ذلك النفوذ ودعم حكومة أقرب إلى الاستقلال والتوازن.
هـذه الضغوط الدولية تجعل تشكيل الحكومة عملية شديدة التعقيد، وتحوّل القرار السياسي العراقي إلى ساحة تأثير متبادلة، يدفع ثمنها المواطن في نهاية المطاف.
وبينما تنشغل الطبقة السياسية في صراع المناصب والتحالفات، يواجه المجتمع العراقي سلسلة من الأزمات العميقة التي تمسّ أساس حياته اليومية وتفتك بالمعيشة وتراكم مخاطرها ومنها أزمة المياه والكهرباء التي لا تنتهي. تراجع مستويات المياه في دجلة والفرات بلغ حدّ الخطر. السياسات الإقليمية، مع ضعف التخطيط الحكومي، تسببت في تهديد الزراعة والأمن الغذائي، وفي تغيّر نمط حياة ملايين العراقيين الذين يعتمدون على الزراعة والري.
ويُعد الفساد المؤسسي وهدر المال العام واحداً من أخطر التحديات. حيث تُهدَر أموال الدولة في مشاريع وهمية، وتُدار بعض المؤسسات بمنطق الولاءات لا الكفاءة. وهذا النزيف المالي يمنع أي إصلاح حقيقي ويعمّق الأزمة الاقتصادية. فيما تصرف عشرات مليارات الدولارات منذ عام 2003 على ما يسمى مشاريع الكهرباء دون تحقيق ذلك، وما زال العراقيون يعتمدون على المولدات الأهلية لسد النقص الحاد في الطاقة. وكلما اشتدت الحرارة، ازداد غضب الشارع وتراجع الثقة بالدولة.
ومن جانب آخر، فالبلاد تواجه بطالة واسعة وغياب فرص العمل. ولا توجد برامج حكومية واضحة، أو خطط للتنمية المستدامة، ما يدفع الكثير من الشباب للهجرة أو الارتماء في أحضان الفقر أو الانخراط في نشاطات غير مستقرة. وفـــــي ظل الخطاب الديني والطائفي المتخلف، أسهمت السياسة الطائفية في تفكك النسيج الاجتماعي وشيطنة الآخر المختلف، بينما أدّى الخطاب الديني المتشدد في بعض المناطق إلى إعاقة التعليم، وتراجع مكانة المرأة، وعرقلة الحداثة التي يحتاج إليها العراق للنهوض من أزماته.
لكن، وعلى الرغم من خسارتها الانتخابية، تبقى القوى المدنية صاحبة الدور الأهم لتغيير المعادلة السياسية ـ حينما ـ تعمل على تفعيل دورها المجتمعي من خلال إعادة النظر في السياسات الخاطئة التي تتبعها منذ أكثر من عقدين. فهي القادرة على رفع وعي الشارع، ومواجهة الخطاب الطائفي، والدفاع عن الحريات العامة وحرية التعبير، والمطالبة بفرص العمل، والضغط من أجل مؤسسات دولة تُدار بالكفاءة لا بالولاء. هذه القوى، بما تملكه من رؤية وطنية، تستطيع أن تتحول إلى رافعة حقيقية للتغيير، إذا ما أعادت تنظيم نفسها وأحسنت استثمار خيبة الشارع لابعاد العراق من الإتجاه بين مفترقين أو ان يقف كما هو عليه اليوم أمام خيارين: إما الاستمرار في دائرة المحاصصة والصراع الخارجي والفساد، أو الانطلاق نحو بناء دولة قوية تستجيب لمطالب شعبها، وتضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. ويبقى الأمل معلّقاً على وعي المجتمع، وعلى قدرة القوى المدنية والنخب الوطنية على إعادة توجيه السياسة نحو خدمة المواطن، لا خدمة المصالح الحزبية والإقليمية.
وبالتأكيد ـ إن بناء ثقافة سياسية لدولة مواطنة رصينة: يبدأ من الإعلام وخطاب النخب، لكنه يتجذر من خلال التطبيق الفعلي في مؤسسات الدولة. فحين يرى المواطن القانون مطبقاً على الجميع، والمال العام مصاناً، والقرارات تصدر لخدمة الناس والمواطن لا لخدمة أصحاب السلطة، عندها فقط تستقيم السياسة ويستقر المجتمع .










