حسن الجنابي
حصل انحسار وضعف في مؤسسات الدولة العراقية منذ التسعينات. وانكمشت مكانة العراق الدولية وتراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانتهى الأمر بالاحتلال العسكري. اندفعت دول الإقليم لملء الفراغ في كواليس السياسة الدولية في مفارقة لم يكن ينبغي لها أن تتكرّس بهذا الشكل. ولم تعد الدبلوماسية العراقية تمتلك البريق ذاته، ولا الهيبة ولا الموقع الذي تميزت به منذ تأسيس وزارة الخارجية قبل قرن من الآن.
إن المجال الحيوي لوزارة الخارجية هو تمثيل الدولة في الخارج والتنسيق بين الوزارات القطاعية الأخرى في تعاملها مع الأطراف الأجنبية، سواء في الصناعة أو التجارة أو الدفاع أو التعليم أو النقل أو التعاون الأمني والسياحي والتنموي. وتبقى رعاية شؤون المهاجرين وحماية مصالحهم جزءاً أصيلاً من السياسة الخارجية، خصوصاً بالنسبة لدولة مثل العراق، يعيش ملايين من أبنائها خارج الحدود بفعل الظروف القاسية التي عصفت بالبلاد.
تتمثل وظيفة الوزارة، في جوهرها، باستخدام أدوات الدبلوماسية لترجمة النهج الحكومي وتحويله إلى سياسات ومواقف ومشاريع خارجية تعزز حضور الدولة وتوطد علاقاتها من خلال الأداء الرصين والالتزام بالأعراف الراسخة.
في الظروف الطبيعية المستقرة، تُعد وزارة الخارجية ركناً مركزياً في الدولة، وهي الجهة المعنية بصياغة القرار الخارجي وتنفيذه. ومع أن مؤسسات أخرى، كالبرلمان والصحافة ومنظمات المجتمع المدني، تسهم في بلورة الرأي العام، إلا أن الميدان الخارجي يظل من اختصاص الخارجية باعتبارها الذراع الرسمية الناطقة باسم الدولة خارج حدودها. ويستمد وزير الخارجية مكانته من إشغاله ثاني أرفع منصب حكومي، وهو ينفذ السياسة الخارجية للحكومة ويوجهها، ويمثل نشاطه انعكاساً مباشراً لنهج الدولة الداخلي المسوّق خارجياً.
أما داخلياً فتستمد وزارة الخارجية نفوذها من صلب مسؤوليتها في تأمين مصالح المواطنين في الخارج ومستلزمات ذلك داخلياً، لاسيما ما يتعلق بالخدمات القنصلية، التي يعتمد عليها ملايين العراقيين المنتشرين في دول العالم.
ولذلك فإن أي تراجع في نفوذ وزارة الخارجية داخلياً ينعكس سلباً على أدائها الخارجي. فوظيفتها مرتبطة عضوياً بالأداء العام للحكومة، لكنها تمتلك دوراً خاصاً باعتبارها الجهة التي تختزل أنشطة المؤسسات الأخرى في المجال الخارجي. وبغير دورها التنسيقي لا يمكن لأي وزارة أو مؤسسة وطنية أن تحقق نجاحاً في علاقاتها الدولية.
من المؤسف أن الوزارة خضعت منذ عام 2003، شأنها شأن مؤسسات الدولة الأخرى، الى نظام المحاصصة وتقاسم النفوذ. وظهر لنا بسبب ذلك تصنيف اعتباطي صنفت وفقه الوزارات الى "وزارات سيادية" وأخرى "غير سيادية"، وصار توزيع المناصب يتم على أسس طائفية وإثنية، وحسب عدد المقاعد المشغولة من قبل هذه الفئة أو تلك. وبما أن وظيفة الخارجية تشمل كل أنشطة الدولة، فقد أصبحت مصالح العراق الخارجية مرهونة بالمكاسب الداخلية التي يمثلها الحصول على موقع الوزير. وتحولت القضايا المتعلقة بالسيادة والاستقلال ووحدة التراب الوطني والمعاهدات الدولية وجوازات السفر إلى ملفات هامشية أمام صراع القوى السياسية على النفوذ والغنائم. وصارت بعض الامتيازات في السلك الخارجي مكاسب تتنافس عليها أحزاب وطوائف "لخمطها"، حسب تعبير زعيم عراقي معروف!
لقد أنتج الفراغ الذي أعقب إسقاط النظام السابق ترتيبات سياسية انتهازية طائفية وإثنية، أتاحت فرصاً سياسية غير متوازنة ولا منصفة لبعض الأطراف عمّقت الانقسامات الاجتماعية. ولم تخدم هذه الترتيبات مصلحة البلاد، بل رسّخت نظاماً يقوم على الزبائنية والتخادم، وأضعفت قدرة الأطراف السياسية على مواجهة التدخلات الخارجية. وبل إن بعض القوى لجأت إلى الاستقواء بالخارج لتعزيز نفوذها في الداخل!
نتيجة لذلك، أصبحت السياسة الخارجية خاضعة لاجتهادات مختلفة، بدل أن تكون سياسة وطنية موحدة بغض النظر عن شخص الوزير. وابتعدت السفارات عن التوجيه المركزي، وأصبحت أحياناً خاضعة لرغبات السفراء أو مديري مكاتب الوزراء، وجرى توزيع السفراء على العواصم الكبرى بناءً على اعتبارات المحاصصة أيضاً. وبما أنه قد تعاقب على وزارة الخارجية وزراء من خلفيات طائفية وإثنية وولاءات مختلفة، فقد ظهرت نزعات تفضيلية لصالح الفئة الأقرب لمركز القرار، ولو بدرجات متفاوتة.
إن ما جرى هو انعكاس طبيعي لنهج المحاصصة الذي لم ينتج سوى تنافس على المكاسب. فالمحاصصة بطبيعتها ليست تحالفاً سياسياً، بل هي صيغة ظرفية قائمة على الانتماءات المتوارثة وليس على المشاريع المستحدثة والبرامج الوطنية المشتركة. أما التحالفات السياسية الحقيقية، فتبنى على أساس البرامج وتقارب الرؤى للمضي للمستقبل، على عكس المحاصصة التي تتغذى على الماضي وعلى ميراث التوترات التاريخية، وعلى نزعات تقترب من العنصرية أحياناً.
إن العراق المعاصر هو امتداد لعراق التاريخ، لكن هذا الإرث لا يعني أن مستقبله محصّن. فهو اليوم أضعف مما كان عليه قبل عقود، ويواجه تحديات تمسّ صميم سيادته، وتضرب نسيجه الاجتماعي المتنوع. ولا شك في أن الدبلوماسية المحترفة قادرة على لعب دور رئيسي في ترسيخ الوحدة الوطنية وحماية السيادة، وأن إخفاقها في ذلك يسهم في إضعاف الدولة نفسها ويعرّض أمنها وسلامة أراضيها للخطر.
إن الدبلوماسية العراقية لم تكن يوماً ضعيفة أو هامشية بالطبيعة، لكنها أُضعفت بفعل نظام المحاصصة والتجاذبات الداخلية. والتاريخ يثبت أن العراق قادر، متى توفرت إرادة وطنية حقيقية، على امتلاك واحدة من أقوى وأذكى الدبلوماسيات في الشرق الأوسط والعالم.










