TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

نشر في: 14 ديسمبر, 2025: 12:04 ص

طالب عبد العزيز

ما الذي نريده في بغداد؟ وما الذي نكرهه فيها؟ نحن القادمين اليها من الجنوب، لا نشبه أهلها إنما نشبه العرب المغرمين بها، لأنَّ بغداد لا تُكره، إذْ كلُّ ما فيها جميل وباذخ الجمال، فهي اسطورة في الذهن الإنساني، تُحَبُّ لماضيها الموغل في أرواح العشاق، وتحبُّ لكلِّ شارع ومبنى وشجرة فيها، هذه التي تضيقُ بحكّامها اليوم، هي حلم كل مخلوق لم يتسسخ قلبه بما تبثه الفضائيات من صور المقت والكراهة، وغاية كلِّ ذي عينين سالمتين من البغضاء، ممتلئتين بالنور والدعة. في كل مغادرة لها أشعرُ أنني لم أوفِّ حقها تجوالاً وأمنيات، ومع كلِّ صديق فيها أحسُّ بتقصير في الوقت وجمل الاعتذار، هناك ما يُنتزعُ منّي دائماً، وما لا أقدر على استرداده، ومثله ما لم أجد الحيلة في أخذه، والاحتفاظ به، فظلَّ رجراجاً، مثل قطرة مطر عالقة بسعفة في الفجر، هذه الطريق التي تسبقني الى قلبها أريدُ أن اسلكها دائماً.
يتلطف الأصدقاءُ في اتحاد الادباء، وفي مؤسسة المدى، وغيرهما؛ بين آونة وأخرى بدعوتنا، ولا نجد الحرج باِخبار زوجاتنا وأولادنا في وجوب تجهيز الحقائب والثياب والعطور، هناك ما يستدعي التهيؤ والاناقة دائماً، فنحن مسافرون الى بغداد المدورة، التي بناها المنصور، والتي نستعيد دهشتنا الأولى في كل زيارة لها، وغالبا ما تكون بالقطار، لا قطارات الحروب بكل تأكيد، إنما قطار الساعة الخامسة عصراً، المنطلق من محطة المعقل، حيت نسترخي في مقاعد الدرجة السياحية، هناك سيضوع عطر دخان سيجارة الروثمان مع رائحة كأس البيرة الأخير، مشفوعاً برائحة عطر الجاكوما، وبرائحة قشور البرتقال.. هذا المخمل كله سيصل بغداد بنا، ولأجل بغداد التي طال حلمُ انتظارنا لرؤيتها. قد لا يعلم أحدٌ اليوم أيَّ معنى لصوت القطار، الذي أمضى الليل كله هناك، وجاب الوهاد، مدناً وماءً وبراري ومستنقعات، قبل أنْ يقطع الطريق على البغداديين في الوشاش ومعسكر الرشيد واالمنصور، ها هو يميس ببطء شديد على الأرض، تهدهدهُ ساعات الصباح الأولى، ماراً بالضواحي الاجمل، بالشوارع المغسولة بماء الفجر، وبالحسناوات الذاهبات الى الجامعة، بزيهنَّ المختار بعناية العارفين. ندخل بغداد في كل مبتدئٍ للصباح، ومع اشراقة كلِّ دجلة وشمس.
أمس الأول كانت سيارة الأجرة قد القت بي عند بوابة فندق قصر السدير بالسعدون. هذا يعني أنني دخلت بغداد بالسيارة هذه المرة، ولأنني بقصد زيارة معرض الكتاب الذي بالمنصور فلم أمكث بالفندق طويلاً، أبدلت القميص حسب، وأبقيتُني في الكنزة التي جئت بها، وخرجت. كان الشتاء بطيئ الخطى، فالمطر الذي وعِدنا به لم يكُ مطراً، هو ضباب ثقيل حسب، وكوى محال باعة الخمرة مغلقة بأمر الحاكمين المسلمين جداً، وبائع الصحف الذي بساحة النصر غادرها الى جهة مجهولة، كذلك يكون باص النقل الأحمر رقم 4 الذي كان يصل الباب المعظم بنا، فهو الآخر لم يعد. يافطة تندد، وأخرى ترحب وتحتفل، وثالثة بصورة طوطم غير معلوم هي ما يمكن مشاهدته في ساحة التحرير؛ بزجاج نافذة سيارة الأجرة، التي تقلني الى المعرض، أمّا دجلة فقد ارتفع قليلاً بماء يميل الى الحمرة، ذلك ما ظننته وهجسته في اجنحة النوارس، التي كانت تلامس سور الجسر إلا قليلاً.
التقيت عبد الزهرة زكي وسهيل نجم وزهير الجزائري وعلي حسين وعمر السراي وآخرين في أروقة المعرض، وفي الليل؛ بمبنى إتحاد الادباء التقيت حيدر المحسن وزهير الجزائري وجمال كريم ومحمد تركي النصار. وفي اليوم الثاني حضرتُ حفل توقيع كتابي( بعضه في الريح وكثير منه في القصب) ثم تبضعت كتباً وزجاجة نبيذ حمراء وحلوايات وغادرت. كان ضباب صباح الخميس يلفُّ دجلة من ساحة التحرير إلى الكرادة، ويتضاعف عند قدمي ابي نؤاس، لهذا كان سائق سيارة الأجرة يزيح أغشية الضباب بمزلاج الزجاجة الأمامية، ولأن المطر كان دهما في سرجنار وطوزخرماتو فقد تعاظمت ضفتا الدجلة بماء سريع قاتم بني، ووقفت أشجار شارع ابي نؤاس في وداعنا حتى الجسر، فيما اعمدة الضوء ما تزال بذبالة نورها الليلي، يؤخرها مطرٌ ضنين. نحن في الحادي عشر من كانون الثاني، من السنة التي توشك. كانت أشجار الميلاد مثمرةً في واجهات فنادق الدرجة الأولى، وصغيرةً، خلف زجاج المطاعم أيضاً، أخفقتُ في احضار زجاجة التكيلا، حيث وعدتُ صاحبي، فكان نصيبه من النبيذ مثل نصيبي من حلوايات متجر الزيتون العظيم، الذي لا تعتمُ واجهته.لهذا سيرافقنا الضباب إلى البصرة، التي سندخلها بعد الظهر بقليل، اِنْ بقيت الشمسُ معتمرة قبعتها حتى الناصرية. أنا في حوض سيارة الأجرة، أتطلع الى البريّة التي تقترب ساعةً وأنعم النظر بعيني السائق ساعةً أخرى. عيون سائقي سيارات الطرق الخارجية حمراء وبرتقالية من التحديق والسهر، يتخطفها تعاقب ظلال المركبات، التي يستحيل علينا قراءة لوحات أرقامها، نحن نبتعد عن بغداد الآن، فالعشب صار أقصر في سماوة الوركاء، العشب الذي مازال يزيحه الآثاريون عن ممالك سومر ولكش وأور اما الطريق الى البصرة فلا دالة عليها في لوحات التعريف الخضر، إذ كلُّ ما على الطريق الصاعدة يشير إلى بغداد، كذلك ستكون الروح.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram