ريسان الخزعلي
1
خيانات صاخبة ، كتاب الشاعر- الناقد / علي حسن الفوّاز / حمل تجنيس ( رواية ) . ومثل هذا العمل جديد على اهتماته ِ الإبداعية ، ولا ضير في ذلك عندما يكون الإبداع قادما ً من ضروراته ِ التاريخيّة / الفنيّة وحتميّات الموقف في مواجهة وكشف التعارضات الوجوديّة .
في أوّل مفتتحات الكتاب والذي جاء بعنوان ( عتبة لتأويل السرد الخائن ) يواجهنا التحليل النقدي لمفهوم السرد الخائن ، والسرد الخائن توصيف صادم نادر الاستخدام في قراءة وتحليل السرديات . وهكذا جاء الاستهلال ليُعلن َ التأويل الذي يبدو مُستفزّا ً لإنصات القراءة الأوّلي :
السرد يخون الواقع حتماً ، يُناقضه ُ ، يُشاكسه ُ ، يصطنع له ُ نصّاً خائناً ، يمكن أنْ يكون هو النص الذي نتخيّل كتابته ُ ، إذ يتحوّل إلى لعبة فائقة الخطورة في السخرية والتقويض والمغامرة ، وافتراض أدوار ووظائف وسلالات وشخصيات ، قد لاتكون موجودة في الواقع ، لكنّها أكثر مهارة في التعبير عن نفسها ، عبر الحكي ، وعبر صناعة واقع مُضاد ، أومُتخيّل .
إن َّ القراءة ، بعد َ أن تُكمل هذا المفتتح النقدي ، لم يَعُد الاستفزاز قائما ً كما في الدهشة الأولى ، إذ جاء التحليل بخلاصات مُعززَة ، لا تُبررتوصيف ( السرد الخائن ) فحسب ، بل تجعله ُ الواقعة التي حصلت والواقع المستمر على السواء . ولا أُخفي سؤالي ، هل كتب الفوّاز نقداً في هذا الكتاب أم رواية ؟ وهل مفردة ( رواية ) على غلاف الكتاب قد جاءت خطأً ؟ . وما يُزيد السؤال استطالة ، ماجاء في المفتتح الثاني ( السياسة وسرديات الشارع ) ..، وهو مفتتح توضيحي لا يخلو من رصد ٍ نقدي ، غير أنّه التمهيد لدخول تفاصيل الرواية وقد أزال الالتباس ، التباس التجنيس .
إن َّ كتابة رواية مع تحليل ونقد الواقع الذي جاء في الرواية ، عمل غير مسبوق فنيّاً ، حتى وإن ْ كشف َ هذا التحليل سريّة الرواية مُبكّراً ، وهكذا أراد َ الفوّاز أن يكون السارد / الناقد في الوقت ذاته ، وليس الحكواتي المتفرّج الناقل للحكايات ، وهي حكايات لا تغريب فيها ، إذ حصلت فعلاً ، ويعرفها معاصروها الأحياء . إذن نحن في مواجهة سرديّة عراقيّة واقعيّة .
2
رواية ( خيانات صاخبة ) استعادت محنة المثقفين العراقيين في زمن الحرب والحصار وتحوّلات الموقف السياسي والثقافي من خلال حياة أربع شخصيّات لا يصعب تحديدها : خضير ميري ، كان َ الأوضح من بينها ، والفوّاز كذلك ، إذ من غير الممكن أن يكون رصد الأحداث بهذه الدقّة وبسرد تشخيصي واقعي إن لم يكن من بين تلك الشخصيات .
إن َّ الخيانات ، وهي خيانات في عُرف السلطة طبعا ً ، كانت خيانات الثرثرة في الشارع والمقهى والحانات عن : السياسة ، الفكر ، الفلسفة ، الحريّة ، العوز ، الاعتراض على الحرب والهروب منها ، الاعتقالات ، السجون ، التفكير بالهجرة ، تغيير الانتماء قسراً .. إلخ . ثرثرات صاخبة – كان الاعتقاد بأنها الخلاص الوجودي - رصدها المخبرون وكانت تؤول وكأنها تخطيط لانقلاب ضد السلطة ، وقد أودت ( بالمثرثرين ) إلى التحقيق أوالسجن أوالجنون أوما يشبهه ُ .
إن َّ رصد حياة المثقفين وثرثراتهم في الشارع وما يتبعه ُ يعكس محنتهم الوجودية ، وقد كشفت الرواية عجزهم حين اعتبروا هكذا ثرثرات مقاومة ، كما أدانت اعتبارها خيانات ، غير أن َّ السارد أيضاً لا يُخفي حنقه ُ وامتعاضه ُ من أيّ التزام وكأنّه متطامن مع ذاته في احتمال حصول الخيانات :
وحدها الخيانة السياسيّة هي الكارثة ، وهي الدنس والكفر واللعنة ، إذ ستدفع بصاحبها إلى تغيير قواعد اللعبة ، والدفع إلى حافّة المتاهة والسجن والمقبرة ، لأن َّ السياسة هنا سلوك جماعي ، وهي عكس الزواج الذي لا جماعية له ُ ، وأن َّ الخيانة فيه ستكون باردة وسريّة ، وخاصّة بالجسد فقط ، لكن َّ الخيانة السياسيّة ستكون خيانة للروح كما قال أحد المنافقين .
3
في المفتتح الأخير من هذا القول :
1 رواية ( خيانات صاخبة ) تمتلك السبق السردي في تفاعلها مع حياة المثقفين في الشارع ، والسارد وعلى طول مساره السردي يُورد الوقائع ويلاحقها نقديّا ً ، أيّ أنّه ُ سارد نقدي أو ناقد سردي .
2 وضعت الرواية في نهايتها خلاصات مستقلّة لما آلت إليه مصائر الشخوص ، وهي حبكة لاحقة قلّما نتوافر عليها في كثير من السرديات الروائيّة .
3 بالإضافة إلى المجسّات النقدية ، لا تخلو الرواية من مجسّات شعرية متناوبة تُضفي على السرد إيقاعاً ينهض بالنثر أحيانا ً إلى مصاف الشعر ، بمعنى أن َّ الممكنات الإبداعيّة متداخلة .
4 كان الاختزال في المشاهد يمنح الرواية بناء ً مترابطاً لا يُثير الملل ، ويجعلها رواية لقطات متناوبة ، أيّ إنها رواية الاختزال بالمعنى الفنّي .
5 قد يجد كثير من القرّاء ما حصل َ له ُ من تعارضات ومصادفات غير سارّة في هذه الرواية ، كما وجدت ُ ما حصل َ لي تشابها ً .
6 غطّت الرواية زمنها ومكانها بتلميحات خاطفة من دون أن تثقلهما بالتوضيح .
تبقى رواية ( خيانات صاخبة ) رواية ثرثرات الاحتجاج التي تتبعها الخيانات العصريّة !
ثرثرات الاحتجاج .. خيانات عصريّة

نشر في: 14 ديسمبر, 2025: 12:02 ص









