د. نادية هناوي
القسم الثاني
يوجب التاريخ النقدي الوقوف عند كتاب عبد القادر حسن أمين ( القصص في الأدب العراقي الحديث) والتأشير على الدور الريادي الذي به نهض هذا الباحث بنقد القصة أكاديميا، واضعا مدماك النقد الحديث في العراق اصطلاحا ومنهجا ووظيفة ومحصلات، مستجيبا لإبداع طاله التهميش طويلا، ومنفلتا من هيمنة الشعر، فاحصا القصة العراقية مميزا بين أشكالها ومحددا مراحلها، راسما خطا بيانيا يدشن تاريخها.
ومكانة عبد القادر حسن أمين في النقد الأكاديمي العراقي لا يمكن نسيانها، فلقد بذل جهدا كبيرا وهو يغربل النتاج القصصي ويضبط قوانينه، راصدا سماته ومراحل تطوره وأهم مذاهبه. فكان أول من مهد السبيل إلى دراسة هذا النوع الأدبي على وفق منطلقات منهجية جمعت الفن بالموضوع وتحرت الإحاطة الأكاديمية.
ولا شك في أن شخصيته النقدية وما تمتع به من ذكاء وقاد ورهافة حس، كانت وراء ما قدمه من عروض وتحليلات وأحكام لا تخلو من المرونة في التقييم والتقدير.
بيد أنَّ التأشير على الريادة والأصالة البحثية لا يعفي من اخضاع دراسته للفحص النقدي لنتلمس ما فيها من مواضع، أجاد فيها هذا الباحث أو أخفق، ولنكشف عن الفاعلية التي جعلته يتوجه بأدوات محددة ومفاهيم معينة نحو نقد القصة العراقية.
ومن نافلة القول إن الجهد الذي بذله عبد القادر أحمد أمين كان محمودًا استكمل شروط البحث الأكاديمي وهو يدرس القصة تاريخا وتطورا وفنا ومقومات. فكان رياديا بدءا من جمع المادة وتبويبها وانتهاءً بتصنيفها وتنسيق دراستها وفقا لمنهجية فنية جلية. وبالريادة وحدها ستنتفى أية مآخذ يمكن أن تؤخذ على الناقد لا سيما إذا وضعنا في بالنا أن النقد الأدبي عالميا أبان مرحلة إعداد تلك الدراسة كان ما يزال تقليديا، يتمسك بالمناهج السياقية التاريخية والانطباعية والاجتماعية والنفسية.
وقد طبَّق الباحث المنهجين الفني والتاريخي وشيئا من المنهج النفسي والاجتماعي متجنبا الانطباعي على نتاج أدبي هو حصيلة نصف قرن. وهو ما يتطلب معايير يتم بموجبها تصنيف النتاجات القصصية الى مجموعات أو توزيع القصاصين في خانات أو طبقات، كي لا تفوت الباحث منهم شاردة ولا واردة.
ولم تكن المرحلة الزمنية التي كان على الباحث رصدها بالقليلة، ففيها شهدت القصة العراقية مرحلتين: مرحلة التأسيس والنشأة وذلك من نهاية العقد الأخير من القرن التاسع عشر إلى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين ثم مرحلة التبلور والاستمكان التي مثلها قصاصو العقد الثالث والرابع حتى نهاية العقد الخامس، لتتبعها مرحلة التجريب والابتكار أبان حقبة الستينيات.
ولم يكن أمر البت في سمات المرحلتين الأولى والثانية باليسير تاريخيا ولا نقديا، نظرًا لصعوية التدشين، ولا سيما من ناحية جمع المادة القصصية التي تفرقت في الصحف والمجلات والكتب وبعضها فُقدت حتى عند مؤلفيها.
وبالرغم من ذلك احتشد لها الباحث أمين بأدوات جعلته يحيط إحاطة واسعة بالمنجز القصصي في العراق منذ بواكير حركته إلى مرحلة تقدمه ضمن مسعى تأصيلي ناضج وعميق.
وما أشَّره الباحث في المقدمة من أنَّ الأدب العراقي الحديث لم يحظ بدراسة واسعة، هو صحيح بالطبع . ولهذا صارت دراسته رائدة في بابها؛ إلا إن البغية التي حددها وهي اسباغ الرعاية على جهود الناشئين، لا تنطبق على جميع القصاصين المدروسين، إذ ليس كل الذين سيشملهم البحث ناشئين، فبعضهم كان من الكتّاب المشهود لهم عربيا بالباع في الكتابة والنشر في المجلات الثقافية المصرية واللبنانية المعروفة، حتى أنها كانت تنشر اسماءهم معضدة بكلمة ( الأستاذ) ناهيك عن أن بعض القصاصين من الرعيل الأول كان قد غادر عالمنا قبل إعداد الدراسة.
باستثناء نفر من القصاصين مثل عبد الله نيازي وغيره، كانوا فعلا ما يزالون وقت اعداد الدراسة في مقتبل تجربتهم القصصية لكن وصفهم بالناشئين لا يخلو أيضا من قدح بعطائهم.
وبالرغم من حداثة هذا الفن وعدم وجود النماذج الملائمة لنقده، فإنَّ القصاصين كانوا مندفعين للكتابة القصصية محاولين الإيفاء بمتطلباتها. أما حاجتهم إلى ( الرعاية ) فتأتي من حقيقة أن النقد كان مقصرًا عن مواكبة القصاصين ومتابعة انجازاتهم، إذ لم يكن هناك من يكتب نقدًا يوصف بأنه قصصي سوى الأستاذين باسم عبد الحميد حمودي وجميل سعيد، بينما الغالبية العظمى مما يُنشر في الصحف من تقييمات وتحليلات نقدية كان يمارسها القصاصون أنفسهم. وكثير منها كانت تحفل بوعي عال بالضوابط النوعية والقواعد المنهجية في هذا النوع من النقد. بعكس الشعر الذي كان له نقاده المتمرسون الذين يمتلكون الاحتراف والمتمتعين برؤى وطدوها استنادا إلى قاعدة المنجز النقدي العربي القديم من جهة واعتمادا على السياق النقدي السائد الذي تؤيده المؤسسة الثقافية الرسمية وتقر به من جهة أخرى.
أما وصف الباحث لهذا الأدب بأنه (وليد ) فلا نؤيده فيه، إذ أن مرور أكثر من خمسين عامًا على كتابة القصة العراقية ليس بالقليل، وخلال هذه السنين شهدت أنماطا كتابية مختلفة، فمن مجاراة المقامة والمنامة عبر قصص الرؤيا عند أبي الثناء الالوسي وعطاء أمين وسليمان فيضي وشوقي خلف الداوودي إلى نمط القصة الواقعية التي رصدت الواقع الاجتماعي وتجسدت كتابتها على أيدي القصاصين( عبد الحق فاضل ويوسف متي وعبد الوهاب أمين وعبد المجيد لطفي وأنور شاؤول وجعفر الخليلي وذي النون أيوب وسليمان الصائغ وشالوم درويش).
ثم دخلت على القصة رؤية جديدة نهاية الأربعينيات تمثلت في تكنيك تيار الوعي على يد عبد الملك نوري في وقت لم تكن القصة العربية قد عرفت هذا التكنيك بعد، ثم تبع نوري في النصف الأول من العقد الخمسيني، قصاصون آخرون مثل فؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر ومحمد روزنامجي، ثم كيف تكون القصة العراقية وليدة، وهي التي انتهجت المذهب الواقعي وجربت مختلف صوره، فمن الرفض للقيم الرجعية وبيان العيوب الاجتماعية ومعاداة الاستغلال الطبقي إلى الانكباب على تصوير تفاصيل حياة الطبقات المسحوقة. وبشكل يدلل على تقدم واضح حصدته هذه القصة في مستواها الفني ومضامينها الانسانية، غير أن النقد كان متأخرا عن اللحاق بتقدمها.
من هنا كانت دراسة عبد القادر حسن أمين لبنة مهمة في طريق بناء معمار للنقد القصصي، يردم الهوة بين تفوق القصة الفني وتأخر النقد الأدبي. وستقل المسافة بينهما شيئا فشيئا مع تقدم الدراسات الأكاديمية، ليصير معمار النقد القصصي عندنا شاخصًا للعيان.
وبالطبع كانت دلالة مفردة ( الحديث ) تعني وقت انجاز الدراسة، الأدب المعاصر آنذاك. ولعل شمول خمسين عاما من كتابة القصة بالدراسة، قد يبدو كبيرًا على رسالة ماجستير، وكان بالإمكان الاقتصار على عشرة أو عشرين أو خمسة وعشرين في الأكثر، لكن هناك أسبابا أوجبت شمول هذه الأعوام كلها بالدراسة النقدية منها صعوبة الحصول على القصص جميعها بسبب ندرتها أو ضياعها، ولأن الصحف والمجلات والكتب التي نشرت فيها القصص كانت كثيرة وقد وصل عددها إلى السبعين، وبعضها أغلقت ابوابها أو غيرت اسماءها أو تحولت من الادب إلى السياسة.
ولا ننسى أنّ للإشراف دورا في توجيه الباحث نحو دراسة النتاج القصصي للخمسين عاما كلها، كي يدخل فيه النتاج القصصي المتزامن نشره مع وقت اعداد الدراسة. وطبيعي أن الباحث حين يشمل هؤلاء بالدراسة يحفز المواهب الجديدة، لكنه لن يستطيع إصدار أحكام ازاءهم، ما دامت تجاربهم لم تتوضح بعد، كون بعضهم قد يعضد إنتاجه مستقبلا أو يجافيه، وقد يصاب الأديب بالغرور وهو يجد عمله مدروسا في بحث أكاديمي فتأخذه العزة بإبداعه ويخدعه سرابها فلا يهتم بتطوير مواهبه.
ويبدو أنّ المنهجية التي اعتمدها الباحث لم تسعفه في التخلص من الذاتية التي تسربت نوعا ما إلى الدراسة، فوقع في بعض مطبات سوء الحكم والتقدير. وهو ما وقع فيه أيضا عبد الإله أحمد؛ الذي استمد السياق النقدي نفسه الذي انتهجه عبد القادر أمين. ومن يتمعن في مقدمة كتابيّ د. عبد الإله أحمد، فسيجد كثيرا من أحكام القيمة والتقدير. ولم يستعمل عبد القادر أمين كلمة ناقد، بل استعمل كلمة معالج، وهذا طبيعي في وقت لم يكن النقد قد وضع أساسات أكاديميته بعد، وهذا ما جعل بعض وقفات الباحث مهمة وتأصيلية إزاء قضايا أدبية ونقدية وبالمقابل كانت له وقفات هي مجرد آراء ذوقية وأحكام انطباعية وتعليلات تجافي التاريخ أو تتحايل عليه.
من منسيات النقد الأدبي في العراق

نشر في: 14 ديسمبر, 2025: 12:03 ص









