لطفية الدليمي
في حياة كلّ كاتب صامت، لا يجيدُ أفانين الضجيج الصاخب، ثمّة تلك اللحظة المتفجّرة والمصطخبة بالأفكار التي يسعى لتدوينها. الكتابة مقاومة للعدم، وهي نوع من العصيان الهادئ على قسوة العالم، وعلى هشاشة الذاكرة، وعلى فوضى الوجود التي تلتهم كل شيء إن لم نضع أمامها سدّاً من الكلمات.
الكاتب الذي يكتب في الظل يصنع لنفسه ولغيره بيتاً معنوياً وسط عالم يتسارع في اتجاه لا يعرف الرحمة. هو أيضاً يذكّرُ بما قاله كامو عن الإنسان المتمرّد: إنّ رفض العبث لا يكون بالصراخ بل بالإصرار على خلق معنى جديد ولو كان المعنى هشّاً كخيط دخان.
كل كلمة ينشرها هذا الكاتب هي إعلانٌ صغيرٌ بأنّ الإنسان ليس رقماً في معادلة، وأنّ الروح قادرة على أن تنتج نورها الخاص مهما كان العالم مظلماً. الكتابة هنا لا تعكس الواقع فحسب، بل تنقذه، تعيد تشكيله، وتمنحه سبباً آخر للبقاء.
في كل زمن، هناك أشخاص نادرون، خافتون، يتسلّلون في الظلام حاملين ناراً صغيرة، متّقدة، لا يريدون منها سوى أن تظلّ مضيئة مهما تراكم الرماد من حولهم. لو أردتُ أن أكتب تحيّة صادقة تُشبه الدعاء الحارّ بالمثابرة والإستمرارية فلن أكتبها إلى الأسماء التي تتصدّر الصفحات، ولا إلى أولئك الذين تُصفّق لهم الكائنات الخوارزمية المُسرنَمَةُ كلّما نشروا سطراً عابراً مثقلاً بالتفاهة، أو زادوا مناسيب الكراهية والضغينة والتناحر في العالم. تحيتي اليوم لكائن آخر بمواصفات متمايزة نوعياً: كاتب ينشر كلّ يوم، بإصرارٍ عجيب، في الأدب أو الفلسفة أو العلم أو أيّ حقل معرفي آخر، وبمواظبة تكاد تكون طقساً روحياً، ولا يقرؤه إلا نفرٌ قليل... قليل جدّاً. مع هذا هو لا يتعب. لا ينطفئ، ولا يتسرّبُ اليأسُ إلى قلبه. أحسبُ أنّ فيه مَنَعَةً مدهشة بالضد من اليأس والإحباط.
هذا الكاتب -الذي قد يكون أنت، أو أنا، أو شخصاً في أبعد جغرافيات الأرض، لا نعرف إسمه ولا وجهه- يمثّلُ ظاهرة تستحقُّ التفكّر والإحترام. هو ليس بطلاً روائياً، ولا نجماً ثقافياً، ولا ساعياً وراء جوائز من كل حدب وصوب، ولا صاحب منبر عالي الصوت يتابعه الألوف المغيّبون في متاهات العالم الخانقة. إنّه ضمير يقظ في عالم يكاد يستسلم كليّاً للنسيان. يكتبُ بمداد من عصارة قلبه لا لأنّ أحداً يطالبه بذلك، ولا لأنّ هناك جمهوراً مليونيّاً ينتظره كلّ صباح. يكتب لأنّ الكتابة له ليست خياراً، بل قدرٌ، ولأنّ الكلمة وحدها تمنحه ذلك المعنى الذي لو اختفى لأصبح العالم أكثر هشاشة مما هو عليه.
أتساءل:ما الذي يجعله يواصل؟ ما الذي يحميه من السأم؟ لماذا لا يرتكنُ لدعة الراحة الممتدّة؟ ما الذي يجعله يقف كلّ يوم أمام الورقة البيضاء كما يقف مقاتلٌ وحيد على باب المدينة؟ ربما هو يعرف سرّاً لا نعرفه: يعرف أنّ ما يبقى ليس فُحْشَ الضجيج بل ما يُكتَبُ في خلوته حيث لا يراه أحد. المعنى الحقيقي، كما يقول الفلاسفة، لا يُقاس بعدد العيون التي تراقبه، بل بمدى صدقه، وبقدرته على أن يشعل في القلب ناراً صغيرة. يكفيه أن يحصل هذا الأمر في قلب واحد فقط.
هذا الكاتب الذي أريد الاحتفاء به اليوم ليس فرداً مُشخّصاً بعينه، بل هو نموذج للروح الإنسانية حين تبلغ مستوى نادراً من النُبْل. في عالمٍ يزداد انشغالاً بالتفاعل اللحظي، بالمتابعة، بالإنتشار، بالمقاييس الرقمية التي تختصر القيمة في عدد النقرات، يخرج هو من هذا المضمار متخفّفاً من كل تلك الأعباء. يغادر المسرح الصاخب راضياً مرضيّاً. يكتب مدفوعاً بما كتبه الحكماءُ قديماً: الكتابة فعل مقاومة. يكتب كما كان يكتب الشعراء الحقيقيون: القصيدة قد تنقذ حياة. يكتب كما كان يكتب الرهبان: الصمت إن لم يُترجَمْ إلى كلمات تحوّل إلى قبر داخلي. يكتب، رغم أن ثلاثة أو أربعة فقط يقرؤون. ربما يقرأ واحد فقط. ربما لا يقرأ أحد. واقعُ الحال منفتحٌ على كلّ الإحتمالات. برغم ذلك ينشر وينشر؛ كأنّه يقول للعالم: أنا لستُ نبتة طفيلية في هذا العالم، وصوتي، مهما خفت، جزءٌ من موسيقى هذا الكون. هنا يكمن السرّ: يدرك أنّه ليس مطلوباً منه أن يهزّ العالم، بل فقط أن يضيف إليه حجراً صغيراً في بناء المعنى. قد يبدو الحجرُ ضئيلاً لكنّه ضروري لبقاء الهيكل قائماً. قد تمرّ سنواتٌ دون أن ينتبه أحدٌ إليه. لا بأس. يكفيه أنّ ذلك الحجر الصغير يساهم في منع انهيار السقف.
في كل صباح، حين يستيقظ هذا الكاتب، يكون في داخله شيء يشبه الوعد. وعدٌ غير مُعلَن؛ لكنه ثابت، صامت، ثقيل، يشبه المسؤولية الأخلاقية الصارمة. ذلكُمْ هو الوعد بأن لا يترك اليوم يمرّ بدون نصّ، بدون فكرة، بدون أثر. ملايين البشر يمرّون على أيامهم كما تمر الريح على السّطوح من غير أثر، أمّا هو فلا يرتضي أقلّ من أن يترك علامة، حتى لو كانت صغيرة: سطراً، فقرة، أو حتّى جملة وحيدة تُشبه بصمة الإصبع. هو كائن لديه حساسية مَرّضيّة تجاه الزمن. يخشى حدّ الموت أن تتسرّب الدقائق من بين يديه من غير أن يترك علامة مفيدة تشي بمروره في هذه الحياة. ربّما يرى في حاصل هذه العلامات ما يرقى لأن يكون صدَقة جارية.
أحيانًا، حين يفرغ من الكتابة ويضغط زرّ النشر، قد يشعر بشيء من الخفّة، كمن أدّى صلاة ربّانية. قد ينظر على غير لهفة إلى عدد القرّاء فيجده ضئيلاً لا يكاد يُرى. ذلك لا يجرحه. أو ربما يجرحه قليلاً؛
لكنّ الجرح يتحوّلُ إلى دافع، لا إلى يأس. هو يعرف أنّه لو توقف يوماً، سينطفئ شيءٌ فيه. ربما سينطفئ شيءٌ صغير في العالم أيضاً.
أريد في مقالتي هذه أن أحيي -وأن تُحيّوا معي- هؤلاء الذين يكتبون رغم الصمت، رغم الخيبة، رغم اللامبالاة العامة. نحيي الذين لم يخدعهم بريق المنصات، ولم يسقطوا في حفرة الشهرة السهلة، ولم يبيعوا موهبتهم لتجّار السرعة. نحيي الذين يعرفون أنّ الكلمة- حين تُكتب بقلب صادق- لا تموت أبداً حتى لو بقيت طويلاً في ظل التناسي والغفلة. أريد أن أقول لهذا الكاتب، ولكل شخص يشبهه: لا تتوقفْ. من فضلك… لا تتوقفْ. العالم بحاجة إليك أكثر مما تظن. نحن بحاجة إليك، نحن الذين نقرأ، والذين نكتب، والذين نبحث عن بصيص نور لا تراه خوارزميات المراقبة وتحليل البيانات الكبيرة . نحن الذين نعرف أنّ الفعل الإنساني النزيه لا يحتاج إلى جمهور كي يصبح حقيقيّاً. نحن الذين نعرف أنّ الكتابة فعل نبيل، وأن النبل نادر، وأنّ النُّدرة نعمة، لا لعنة. لا تسمحْ لليأس أن يجد إليك طريقاً. لا تدع الكتابة تتحوّل إلى مساءلة وجودية مأساوية. أكتبْ وحسب. أكتبْ واشكرْ هؤلاء الذين جعلوا من منصّات النشر الرقمي فعالية عولمية كانت أقرب إلى أحلام ألف ليلة وليلة حتى قبل بضع سنوات خلت. أكتبْ كما كنت تكتبُ دائماً: بكرامة الصامتين، وبشغف الذين يعرفون أن الكلمة قد تغيّرُ العالم… ولو بعد حين.
هذا المقال تحية لك أيها الكاتب المرئي/اللامرئي، ولكلّ الذين يكتبون بلا ضجيج. أنتم الذين تجعلون الحياة أكثر احتمالاً . أنتم الذين لا تسمحون للعالم بأن يموت.










