TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مثلث المشرق: سوريا ومستقبل الأقليات بين لبنان والعراق

مثلث المشرق: سوريا ومستقبل الأقليات بين لبنان والعراق

نشر في: 15 ديسمبر, 2025: 12:02 ص

سعد سلوم

على مدار عقود، انتقلنا من توصيف إلى آخر: من "البلقنة" في سياق الصراعات البلقانية، إلى "لبننة" العراق بعد التغيير السياسي في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وصولًا إلى الحديث اليوم عن "عرقنة" سوريا. وفي كل حالة، يتكرر سيناريو مألوف: ضعف الدولة، تصاعد الهويات الفرعية، وتنوّع يواجه خطر الانكماش أو الانفجار. وما يميز هذه التجارب أنها لا تعكس مجرد أزمات محلية، بل تمثل اختبارات حقيقية لقدرة المجتمعات على إدارة التنوّع والاختلاف، والحفاظ على فسيفساء المشرق الدينية والقومية، التي تشكّل قلب هويته التاريخية.
يمكن تصور لبنان والعراق وسوريا على أنها "مثلث التنوّع التاريخي للمشرق"، حيث يمثل كل ضلع منه تجربة فريدة لإدارة التنوّع: لبنان بنظامه الطائفي المؤطر والمؤسسي الذي يوزع السلطة وفق المكونات الدينية، العراق بتحولاته الانتقالية العنيفة وهشاشة فكرة الدولة، وسوريا بسياقها الطويل من الصراعات المستمرة والأزمات المركبة التي أثّرت على هياكل الدولة والمجتمع. هذا المثلث ليس مجرد موقع جغرافي، بل رمز حي لفسيفساء المشرق، حيث تتشابك الهويات الدينية والقومية والاجتماعية، وتتفاعل دينامياتها داخليا وإقليميا وعالميا، أي أن أي تحول في أحد أضلاعه يرسل موجات تأثير تتجاوز حدوده الجغرافية، مؤكدًا أن حماية التنوّع هي شرط أساسي للاستقرار الإقليمي والعالمي.
وكما وجدت النخب السياسية في عراق ما بعد صدام حسين نفسها أمام تحد لإعادة تنظيم العلاقة مع "الآخر الداخلي" ووضع أسس جديدة لإدارة التنوع، تواجه سوريا ما بعد الأسد اختبارا مشابها، مع فارق أن المرحلة الراهنة بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً)، تحظى بدعم دولي وإقليمي متزايد يفتح المجال لعودة سوريا التدريجية إلى محيطها السياسي. والسؤال المركزي هنا يظل قائمًا: هل سيكون ملف الأقليات الدينية والقومية أحد أكثر الملفات حساسية أمام القيادة الجديدة في دمشق، وهل تستطيع حماية التنوّع وإدارته بفعالية لتصبح سوريا نموذجا حيا لإدارة التنوع في المشرق؟
قبل الخوض في تفاصيل أوضاع الأقليات السورية، من الضروري التأكيد على أن هذه المجتمعات ليست متجانسة، وأن طبيعة تحدياتها تختلف باختلاف مواقعها الجغرافية. ففي الشمال الشرقي تبرز الأقليات متعددة الأعراق المرتبطة بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في "روج آفا" من العرب و‌الكرد و‌السريان والآشوريين، مع المجموعات الأصغر من التركمان و‌الأرمن والشيشان والإيزيديين. بينما يواجه المجتمع الدرزي في السويداء تحديات اقتصادية وسياسية خاصة. وفي الساحل السوري، تتجلى المخاوف لدى المكوّن العلوي ضمن سياق التحولات الاقتصادية والأمنية، أما الأقليات المسيحية، فهي تواجه هواجس متصاعدة بشأن الهجرة وانكماش دورها التاريخي. وسيستعرض هذا المقال هذه المجموعات وفق مواقعها الجغرافية، مع ربط التجربة السورية بما شهدته الأقليات في العراق ولبنان، لتوضيح أوجه التشابه والاختلاف في إدارة التنوّع وأهمية حماية هذا المكوّن الأساسي من فسيفساء المشرق والعالم.
في الشمال الشرقي السوري (روج آفا)، ترتبط بعض الأقليات مثل السريان، الأشوريين، الإيزيديين، والأرمن بالأطر الإدارية والعسكرية للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. هذا الارتباط يمنحها نفوذًا غير مركزي ويجعلها جزءًا من سلطة محلية مستقلة نسبيًا عن السيطرة المباشرة للدولة المركزية، معتمدا على ترتيبات سياسية وأمنية داخل مناطق نفوذ الإدارة الذاتية. ومن ثم، يصبح دمج هذه الأقليات ضمن الدولة المركزية تحديا معقدا يتطلب ترتيبات دقيقة تحافظ على مصالحها وحقوقها وتراعي خصوصياتها الثقافية والاجتماعية، خاصة بعد تعرض بعض هذه المجتمعات لصراعات ومجازر في الماضي القريب.
يمكن مقارنة ذلك بتجربة إقليم كردستان العراق، حيث تمكن الأكراد من تأسيس نموذج حكم ذاتي مستقر نسبيا قائم على مؤسسات مستقلة عن بغداد، ما أتاح لهم حماية مصالحهم وإدارة شؤونهم، في حين بقيت الأقليات الأخرى خارج الإقليم رهينة للتقلبات السياسية والأمنية والتنافس على السلطة والثروة بين الأخوة الكبار : الأكراد، الشيعة، السنة.
في محافظة السويداء، يواجه المجتمع الدرزي تحديات اقتصادية وسياسية مميزة. اقتصاديا، تعاني المنطقة من ضعف البنية التحتية، وارتفاع البطالة، واعتماد السكان على التحويلات الخارجية والزراعة الصغيرة. سياسيا، يتميز المجتمع الدرزي بخصوصية نابعة من تماسكه حول زعاماته الدينية والاجتماعية ورفضه الانخراط الكامل في أي طرف من أطراف الصراع، ما أتاح استقلالية محلية نسبية عبر فصائل مسلحة ولجان شعبية غير خاضعة بالكامل للسلطة المركزية. أي إصلاح أو سياسات دمج تتطلب مراعاة هذه الخصوصيات لضمان استقرار المجتمع.
ويمكن مقارنة ذلك بما يحدث في لبنان مع المناطق الدرزية في جبل لبنان، حيث يحافظ المجتمع على تمثيله السياسي ضمن النظام الطائفي، ويحتفظ بهامش استقلالية محلية مماثل، رغم مواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية مشابهة. كما توجد نماذج مماثلة في العراق لبعض الأقليات في المحافظات المختلطة، حيث يحافظ السكان على هامش من التنظيم المحلي والزعامات التقليدية مع مواجهة تحديات اقتصادية وأمنية، ما يستلزم سياسات دمج مرنة وحساسة.
في الساحل السوري، تواجه المكوّن العلوي تحديات مرتبطة بالتحولات الاقتصادية وتوازنات الأمن واندماجها في الدولة الوطنية. رغم أن المنطقة لم تتعرض لدمار شامل، إلا أن التدهور الاقتصادي وارتفاع البطالة وضعف الاستثمارات أضعف الدور الاقتصادي التقليدي لهذه المجتمعات. أمنياً، يمثل الانتقال من الاعتماد العضوي على الدولة إلى دمج أوسع ضمن المؤسسات الوطنية تحديًا حساسا، إذ يمكن لأي تغييرات مفاجئة في مراكز القوة أو البنية الأمنية أن تُفسّر على أنها تهديد للاستقرار المحلي، لا سيما بعد التعرض لأعمال عنف ومجازر أثرت على الشعور بالأمان. ويمكن ملاحظة تجربة مشابهة في لبنان، حيث تحافظ بعض الأقليات الطائفية في المناطق الساحلية أو المختلطة على مستوى من الاستقلالية المحلية، مع مواجهة تحديات اقتصادية وأمنية، ما يستدعي سياسات دمج دقيقة تراعي خصوصيات هذه المجتمعات.
أما الأقليات المسيحية في سوريا، فتواجه هواجس متزايدة بشأن الهجرة وفقدان دورها الاجتماعي والتاريخي. أدت الحرب وانعدام الأمن، إلى جانب الهجمات والمجازر، إلى نزوح واسع للشباب المتعلم، ما أحدث فراغا ديمغرافيا وثقافيا. كما أدى تراجع التمثيل السياسي والاقتصادي لهذه المجتمعات إلى شعور بانكماش دورها التاريخي، ما يستدعي وضع استراتيجيات شاملة لحمايتها وضمان استمرار مساهمتها الفاعلة في الحياة العامة.
يمكن مقارنة ذلك بما حدث للأقليات المسيحية في لبنان، حيث يضمن النظام الطائفي تمثيلا سياسيا، لكنه لا يمنع الهجرة أو الفراغ الديمغرافي، كما أن تجربة العراق بعد 2003 أظهرت نزوحا واسعا للأقليات المسيحية تحت وطأة العنف الطائفي ودوامة الأرهاب ، بينما حافظ الأكراد ضمن إقليم كردستان على استقرار نسبي للأقليات.
تشكل تجارب العراق ولبنان إطارا مهمما لفهم ديناميات وضع الأقليات في سياق تحولات الدولة والمجتمع. ففي العراق بعد 2003، أدى انهيار مؤسسات الدولة المفاجئ إلى تهجير جماعي واسع للأقليات الدينية (من الموصل في الشمال و وسط وجنوب البلاد)، بينما نجح الأكراد في إقليم كردستان في بناء نموذج حكم ذاتي مستقر نسبيا، فيما بقيت الأقليات الأخرى رهينة للتقلبات السياسية والأمنية، ما أبرز هشاشة حماية التنوّع في غياب مؤسسات قوية وشاملة. أما لبنان، فقد حافظ على التنوّع عبر نظام طائفي مؤطر بدقة، ما أتاح استقرارا نسبيا لكنه رسخ الانقسامات والجمود السياسي والاجتماعي بين المكونات، موضحا أن الاستقرار النسبي لا يضمن حماية التنوع من الصراعات الداخلية أو تراجع الأدوار المجتمعية.
أما سوريا، فقد جاء تدهورها بصورة تدريجية، ولم تشهد حتى الآن موجات تهجير جماعي واسعة النطاق كما حدث في العراق، لكنها تتقاطع معه ومع لبنان في هواجس أعمق تتعلق بتآكل الدور التاريخي للأقليات، وانكماش تمثيلها السياسي والاجتماعي، وتراجع الأمان الاقتصادي. ويزداد الملف السوري تعقيداً بفعل تشابك أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وارتباطه بشروط الانفتاح الدولي ومتطلبات الإصلاح الداخلي في آن واحد.
في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى سوريا بمعزل عن محيطها، إذ يبرز مثلث التنوّع التاريخي في المشرق (لبنان والعراق وسوريا) كمنظومة مترابطة لا كدول منفصلة. فكما أثبتت التجربة أن مستقبل لبنان والعراق متداخل ومتأثر بعضه ببعض، فإن مستقبل سوريا بدوره يمسّ العراق مباشرة، سياسياً واجتماعياً وأمنياً. أي خلل في أحد أضلاع هذا المثلث يطلق موجات ارتدادية تطال الضلعين الآخرين، ما يجعل إدارة التنوّع وحمايته مسألة استراتيجية إقليمية تتجاوز الحسابات الوطنية الضيقة.
من هنا، يمثّل ملف الأقليات في سوريا اختبارا حقيقيا للقيادة الجديدة: فنجاحها في حماية الحقوق، وإعادة دمج هذه المكوّنات في الحياة السياسية والاجتماعية، لا يعزز فقط شرعيتها الداخلية ومصداقيتها الخارجية، بل يفتح الباب أمام تأسيس تجربة نجاح قابلة للتعلّم منها إقليمياً. تجربة يمكن أن تستفيد منها العراق ولبنان في تصحيح اختلالاتهما البنيوية، كما يمكن لسوريا أن تستخلص دروس الفشل والتعثر فيهما لتفادي إعادة إنتاج التهميش والانقسامات. أما الإخفاق، فلن يكون شأناً سورياً داخليا، بل سيعمّق هشاشة المشرق بأسره، ويؤكد أن استقرار هذا الإقليم ومستقبله يظل مرهوناً بكيفية إدارة هذا المثلث الحيوي للتنوّع، وحمايته كقيمة سياسية لا كزينة خطابية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

 علي حسين ما أن خرج الفريق عبد الوهاب الساعدي ليتحدث إلى احدى القنوات الفضائية ، حتى اطلق بعض " المحلللين " مدفعيته تجاه الرجل ، لصناعة صورة شيطانية له ، الأمر الذي دفع...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

مثلث المشرق: سوريا ومستقبل الأقليات بين لبنان والعراق

سعد سلوم على مدار عقود، انتقلنا من توصيف إلى آخر: من "البلقنة" في سياق الصراعات البلقانية، إلى "لبننة" العراق بعد التغيير السياسي في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وصولًا إلى الحديث اليوم عن "عرقنة"...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram