TOP

جريدة المدى > عام > بين إرث ما بعد الدراما وعودة السرد "مسرح أوروبا معقلا ونموذجا"

بين إرث ما بعد الدراما وعودة السرد "مسرح أوروبا معقلا ونموذجا"

نشر في: 15 ديسمبر, 2025: 12:12 ص

ناصر طه
شهد المسرح الأوروبي خلال العقود الثلاثة الأخيرة موجة مسرحية تجريبية عرفت بمصطلح " المسرح ما بعد الدرامي " وهو مفهوم بلوره المنظر الألماني "هانز-تيس ليمان" عام 1999 لوصف أشكال مسرحية تتجاوز البناء الدرامي التقليدي وتتميز بتفكيك الحبكة والسرد والتركيز على الأداء الجسدي والتقنيات البصرية والوسائط المتعددة بدلا من تطور القصة والشخصيات. ويرى ليمان أن هذا المسرح يتجلى حين لا يعود تتابع القصة بمنطقها الداخلي هو المركز، وحين لا تُختبر بنية العرض (أي تركيبه وتأليفه) بوصفها عنصرا تنظيميا طبيعيا بل تدرك بوصفها صنعة مفروضة اصطناعا " أي ترتيبا مقصودا يكشف آليته بدل أن يبدو نابعا تلقائيا من منطق الحكاية".
لقد سعت عروض الـ "ما بعد درامية " إلى كسر تقاليد المسرح الدرامي عبر نصوص مجتزأة غير خطية ومن خلال اعتماد صناعها على الرقص والحركة والصوت والصورة بوصفهم البديل الأكثر تأثيرا وعمقا من الحوار المسرحي المنطقي " كما يرون "... وبهذا يتركز هدفهم على إثارة استجابات حسية وفكرية مباشرة لدى المشاهد بدلا من تتبّع حكاية درامية متسلسلة! وهم بهذا السياق تجاوزوا حدود النص المكتوب ومنطق الحكاية ساعين بكل ما أوتوا من قوة لإشراك الجمهور في تجربة شعورية وفكرية مختلفة عن التجارب الكلاسيكية التي تعتمد النص المكتوب وفق معايير البناء الدرامي ومبادئ الكتابة المسرحية.
لابد من الاعتراف أن هذه تجارب "ما بعد الدراما" قادت انقلابا على المسرح الكلاسيكي! بل أن بعضها هيمن على اتجاهات التجريب المسرحي في أوروبا بشكل واضح أكثر من أي مكان آخر في العالم. خصوصا البلدان التي شهدت تحولات جيوسياسية وانتقلت من المعسكر الاشتراكي لتلتحق بركب الرأسمالية... مع الأخذ بنظر الاعتبار... أن هذا لا يعني ذلك أن التحول كان موحدا أو متزامنا في جميع البلدان بل تدرج واختلف بحسب البنى المؤسسية والسوق الثقافي.
المشهد المسرحي العالمي اليوم يشهد تغيرات لافتة لا ينبغي إغفالها فرغم التأثير العميق لموجة "ما بعد الدراما" إلا أنها في السنوات الأخيرة شهدت مراجعات نقدية جذرية من داخل أوروبا نفسها! وانطلقت ودعوات جادة لإعادة النظر في حدود وأساليب المسرح ما بعد الدرامي. ويمكن رصد ثلاثة مظاهر بارزة لهذه المراجعات النقدية الداخلية.
المظهر الأول : تمثل بالتعب من هيمنة التجريب اللاسردي على عروض هذه المسارح حيث علت أصوات ممارسين وصناع فيها معترفة بإرهاقها من عروض كثيرة مفتقرة إلى البناء والحوار.
ومن أهم هذه الأصوات هي الكاتبة المسرحية والدراماتورج المقدونية " آنا ريستوسكا تربينوسكا " والمقيمة في النمسا حيث صرحت في مقابلة معها عام 2025 أنها وصلت إلى مرحلة ( سئمت فيها من استهلاك المسرح ما بعد الدرامي ) فقررت العودة إلى الكتابة الدرامية التقليدية والتركيز على الحوار.
ريستوسكا تحدت نفسها بكتابة مسرحية تعتمد بالكامل على الحوار بعد أن رأت أن المسرح ما بعد الدرامي التجريبي غالبا ما يفتقر إلى ( الحوار القوي) شهادة ريستوسكا تعبّر عن شعور انتشر لدى الكثير من المسرحيين التجريبيين بالذات بأن الإفراط في التجريب ما بعد الدرامي خلق عروضا نخبوية مغلقة لا تخاطب إلا دائرة محدودة من المختصين، على حساب التواصل مع الجمهور الأوسع.
المظهر الثاني: نراه في أزمة المسرح الألماني في قلب أوروبا الذي يعد معقل موجة "ما بعد الدراما" حيث شرع أساطينه بطرح تساؤلات عميقة حول عودة الحكاية وبرزت مطالبات لمراجعة المسار. لم يعد النقد خارجيا بل صار خطابا داخليا! ففي افتتاح ما يعرف باسم "سوق النصوص المسرحية " ضمن ملتقى "ملتقى المسرح " في برلين عام الفين وثمانية. وجه الدراماتوج والمدير الفني لمسرح تاليا في هامبورغ "يواخيم لوكس" سؤالا محرجا ومباشرا من خلال عنوان مداخلته ( مسرح بلا مؤلفين... هل المستقبل درامي؟) ويعكس هذا العنوان التساؤلي قلقا مبكرا من تراجع مركزية النص والحكاية لصالح صيغ أدائية تقصي الدراما أو تضعفها.
وفي العام نفسه قدم المنظر الألماني "برند شتيغمان" مداخلة نقدية شديدة الوضوح في نصّه (بعد ما بعد الدراما ) المنشور في مجلة " المسرح اليوم " حيث جادل فيها بأن المسرح حين يتخلى عن الدراما والمحاكاة لا يربح بالضرورة حداثة أعمق... بل قد يفضي "بإصراره على تبني شعار التجريب" إلى التفريط بأقوى عناصر المسرح وهي قدرته على صناعة أثرٍ مقنع وتنظيم معنى يمكن تداوله وجذب متلقين أوسع من دائرة المختصين وحدهم.
من جانبه... دعا المخرج الألماني المعروف " فرانك كاستورف" وهو من الأسماء البارزة في التجريب الإخراجي شديد القطيعة مع القوالب المألوفة في أوروبا وارتبط اسمه تاريخيا بمسرح "فولكس بونه" في برلين بوصفه أحد أهم فضاءات التجريب . دعا إلى ما يتجاوز اللعب الشكلي الخالص. ففي نص حواري بعنوان ( ليس الواقعية، بل الواقع... فرانك كاستورف يتحدّث عن منهجه الإخراجي) والمنشور ضمن كتاب محرر بعنوان (السياسة والجريمة...اقتحام الواقع). يصر كاستورف على استعادة الواقع بوصفه مادة خشنة ومقاومة لا مجرد تجريدات جمالية مكتفية بذاتها وهو اتجاه يلتقي من زاوية مختلفة مع دعوات استعادة الحكاية والصراع والحدث بوصفها شروطا لإعادة وصل المسرح بحيويته الاجتماعية.
وخارج ألمانيا طرح الكاتب البريطاني "روي كيفت" سؤالا مهما عن أزمة المسرح الألماني الما بعد درامي في مقال نشر في مجلة " المشاهد الأوروبية " وحمل عنوانا لافتا "إلى أين تمضي؟ الحالة الراهنة للمسرح الألماني". "كيفت" سأل صراحة عن إمكانية أن تكون العودة إلى مسرح السرد القصصي سبيلا للتقدم ومغادرة الأزمة التي يمر بها المسرح الألماني حاليا؟
نحن إذن إزاء صورة متماسكة تشكلت لتؤكد أن القضية ليست رفضا للتجريب! بل مراجعة تجريب يبالغ في تفريغ العرض من الحكاية والتوتر الدرامي حتى يغدو أثره محدودا! وتصبح استعادة السرد خيارا حقيقيا داخل الوسط المسرحي الألماني بكل مدارسه " لا بوصفه رجعة تقليدية" بل بكونه "استعادة لأداة بناء الأثر والمعنى والمتعة" لجمهور عريض بدأ ينصرف باحثا عن عروض أكثر ارتباطا وتواصلا معه.
المظهر الثالث: نجده في النقد الفكري النظري لعقل "ما بعد الدراما" حيث قام باحثون بتفكيك مسلّمات هذا التيار وتقويم منطلقاته الفلسفية! ففي كتاب (الاستثناء الجمالي) الصادر عام الفين وثلاثة وعشرين خصص عدد من النقاد في فصلا بعنوان (إغلاق المسرح السياسي ونقد العقل ما بعد الدرامي) ناقشوا فيه حدود مفهوم ما بعد الدراما من ناحية إنتاج المعنى الجمالي والسياسي وشددوا على أن كسر البنية والسرد لا يعني بالضرورة تحررا فعالا! فإقصاء القصة قد يفضي أحيانا إلى فراغ دلالي وعجز عن إيصال رسالة سياسية واضحة. بمعنى آخر... أصبح التيار ما بعد الدرامي ذاته موضع تساؤل! هل لا يزال يمتلك طاقة تغيير حقيقية؟ أم أنه تحوّل إلى شكل جمالي مغلق لا يتفاعل إلا مع نخبة من المطلعين؟ يشير هذا النقد إلى أنه بحرمان المسرح من القدرة على التموضع ورواية قصة ذات مغزى! يعلق ارتباطه بالسياق الاجتماعي السياسي مما يحد من فعاليته.
تشترك هذه المراجعات بمظاهرها الثلاثة في إعادة الاعتبار للمشاهد وللحكاية. وهذا دليل حقيقي وأساسي على أن النقاش يأخذ منحى جديا ويسعى لتأكيد ضرورة الموازنة بين التجريب الجمالي والتواصل السردي مع الجمهور.
في الجزء الثاني سنركز على مسرحنا العربي وإرهاصات ما بعد الحداثة فيه

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

ندرة النقد التشكيلي...تشكيليون: لا يحظى النقد والتذوق الفني بالأولوية ضمن المناهج التعليمية

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

من منسيات النقد الأدبي في العراق

ثرثرات الاحتجاج .. خيانات عصريّة

طقوس فارسية .. علامة فارقة في الأدب الإيراني

مقالات ذات صلة

بين إرث ما بعد الدراما وعودة السرد
عام

بين إرث ما بعد الدراما وعودة السرد "مسرح أوروبا معقلا ونموذجا"

ناصر طه شهد المسرح الأوروبي خلال العقود الثلاثة الأخيرة موجة مسرحية تجريبية عرفت بمصطلح " المسرح ما بعد الدرامي " وهو مفهوم بلوره المنظر الألماني "هانز-تيس ليمان" عام 1999 لوصف أشكال مسرحية تتجاوز البناء...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram