ستار كاووش
مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم تقذف بي مجدداً في متاهات ظلمة جديدة، وكأنهم يقولون لي، أن الفن العظيم يغسل روحك مرتين، الأولى حين تتحسس التقنيات الفريدة التي ابتكرتها أصابع مرهفة ومليئة بالحساسية، والثانية عندما تنطبع الموضوعات فى قلبك وروحك الى الأبد. لكن لم يكن ذلك وحده الذي دعاني للبقاء في المتحف كل هذه الفترة، بل هو بحثي الذي مازال جارياً عن أهم مجموعتين لها، وهما (ثورة النساجين) و(حرب الفلاحين) اللتان تتكونان من ثلاثة عشر لوحة تُعتبر أعظم ما قدمته هذه الفنانة على الإطلاق، وجعلتها في قمة الفنانين الألمان، لأنها تجاوزت الواقعية التقليدية، وإنطلقت نحو تعبيرية مذهلة ومؤثرة.
إبتدأ الأمر حين أن شاهدتْ كاتي كولفيتز على مسرح (فراي بونه) في برلين عرضاً مسرحياً للكاتب العظيم جيرارت هاوبتمان بعنوان (النساجون) فتأثرت كثيراً وظلّت تفكر بهؤلاء الناس المسحوقين، لتترك مباشرة كل اللوحات المنشغلة بها، حتى أنها توقفت في منتصف عملها على رسوماتٍ لمسرحية (جيرمينال) لإيميل زولا، وبدأت مباشرة برسم سلسلة عن ثورة النسّاجين التي حدثت سنة ١٨٤٤، وباءت بالفشل بسبب القمع الشديد. وهكذا إنجزتْ ستة أعمال مهمة حول هذا الموضوع، ثلاثة منها نفَّذتها بالطباعة الحجرية، وثلاثة أعمال أخرى نفذتها بالأحبار المائية وورق الصنفرة. وها أنا أقف أمام هذه الأعمال التي حملت عناوين: (الحب)، (المؤامرة)، (مسيرة النساجين)، (الشغب)، (إقتحام البوابة)، ثم (الموت). المهم في هذه الأعمال- شأن كل الأعمال العظيمة- هي أن الفنانة لم تحاول نقل الأحداث حرفياً، بل غيرت الكثير من التفاصيلات كي تكون الأعمال معبرة وملائمة لكل وقت، وقد عكستْ فيها الفاقة والأمل، البؤس والشجاعة، وإيمان الناس بقضاياهم حتى لو لاقوا حتفهم جراء ذلك. وحين عرضت هذه الأعمال سنة ١٨٩٨، لاقت استقبالاً كبيراً من قبل الأوساط الفنية والنقاد، وتم ترشيحها للميدالية الذهبية في معرض برلين الكبير، لكنها لم تحصل علـى الجائزة التي تستحقها بعد إعتراض القيصر فيليم الثاني الذي قال (توقفوا أيها السادة، أنه تجاوز مشين أن تُمنح مثل هذه الميدالية لإمرأة! فالأوسمة والميداليات تُمنح فقط للرجال المحترمين)، وهكذ حُرمت كاتي كولفيتز من الجائزة، لكن رغم ذلك، فقد طوى النسيان ذلك القيصر، فيما أصبحت مجموعة (النساجين) من أهم ما قدمه الفن الألماني عبر العصور. وبهذه المناسبة، أذكرُ أن هاوبتمان الذي كتب تلك المسرحية قد حصلَ على جائزة نوبل بعد ذلك العرض بعدة سنوات. الفن هو الذي ينتصر في النهاية، والجمال حين يقول كلمته، يعرف أن هناك من ينتظر صداها في المستقبل.
لكن الفن الملهم والعظيم لا يقف عند حدود معينة، بل يفتح الأبواب ويمضي قدماً نحو مناطق لم تطأها قدم فنان من قبل، وهكذا كان الحال مع كولفيتز التي أنجزت سلسلة أخرى من الأعمال، فاقت بعظمتها كل أعمالها. أنها مجموعة (حرب الفلاحين) التي أقف أمامها الآن في هذا المتحف، والتي تبدو كأنها إنبثقتْ من بين يديَّ الفنانة مثل شهاب أضاء سماء الفن مرة واحدة والى الأبد. يالها من أعمال تخترق بقوتها كل القلوب المحبة للفن العظيم، وقد أمضتْ الفنانة ست سنوات في رسمها (١٩٠٢-١٩٠٨)، حيث إستلهمتها من حرب الفلاحين الألمان سنة ١٥٢٤، حين أمسك الفلاحون المضطهدون الأسلحة في جنوب ألمانيا وثاروا ضد طبقة النبلاء والكنيسة. وقد تألفت هذه المجموعة من سبعة أعمال هي (الحرث)، (الإغتصاب)، (شحذ المنجل)، (التسليح في القبو)، (الهجوم)، (السجناء)، وأخيراً (ما بعد المعركة) والعمل الأخير كانت تشير وتتنبأ من خلاله بأخطار قادمة، حيث رسمتْ أم تبحث عن جثة إبنها في الليل، ونفَّذَت ذلك برمزية مذهلة. وهذه المجموعة بمجملها تتميز بقدرات فنية تجاوزت مجموعة النساجين وحجومها أكبر، وأظهرتْ الفنانة فيها، تحكمها المذهل بالإنارة المؤثرة. وتُعتبر هذه اللوحات أعظم إنجازات الفنانة على الاطلاق لما تحمله من معالجات في الخطوط والتعبير فاقت كل معاصريها وتعتبر أحد كنوز الابداع في كل الاوقات.
هكذا دافعت كولفيتز عن الناس الذين لا صوت لهم ولا سند، ومسَّدَتْ بيدها وجوه الناس المتعبين، وكأنها قد خلطتْ معاناة هؤلاء مع الأحبار لتصنع معجزاتها الفنية، فكانت النتيجة إنتصاراً للإنسان والفن الجميل أيضاً. وقد كتبت في مذكراتها حول هذا الأمر (أشعر أنه ليس من حقي التخلي عن مسؤولية الدفاع عن حقوق الإنسان. بل واجبي هو التعبير من خلال أعمالي عن معاناة البشر، تلك المعاناة التي لا تُريد أن تنتهي، بل وتتراكم كالجبال. هذه هي مهمتي، ولكنها ليست مهمة سهلة".
ومثلما تمهلتُ في المجيء الى هذا المتحف وأجَّلت زيارتي ثلاثة أيام، فها أنا لا أريد الخروج من هذا العالم الذي رسمته كاتي كولفيتز، أريد البقاء هنا أطول فترة ممكنة من هذا اليوم الخاص. لكن مع ذلك فللمتحف وقت محدد، وهناك من ينتظرني وسط مدينة كولن. لذا خرجت على مهلٍ، لأقف بمحاذاة هذا المكان الجميل، يحتويني عَلَمان، عَلَمُ يرفرف في قلبي متذكراً الجمال الذي تركْتُهُ في الداخل، وعَلَم آخر يرفرف على واجهة المتحف، والذي طُبعت عليه صورة كاتي كولفيتز، صورتها التي ستبقى في ذهني الى الأبد.









