محمد العبيدي/ المدى
تكشف بيانات التجارة الخارجية العراقية للأشهر التسعة الأولى من العام الحالي عن ملامح اختلال بنيوي مستمر في هيكل الاستيراد، سواء على مستوى الدول المورّدة أو طبيعة السلع الداخلة إلى السوق المحلية، في مشهد يؤشر اعتمادًا شبه كامل على الخارج مقابل ضعف واضح في القاعدة الإنتاجية الوطنية.
وبحسب الأرقام تواصل معدلات الاستيراد العراقية نموّها بوتيرة متصاعدة، مع تركّز لافت في عدد محدود من الدول، تصدّرتها الإمارات والصين وتركيا، التي باتت تمثّل المصدر الرئيس لغالبية السلع الداخلة إلى البلاد، في وقت يغيب فيه التنويع الحقيقي للشراكات التجارية.
ولا يقتصر هذا التركّز على الدول فقط، بل يمتد إلى الفئات السلعية نفسها، إذ أظهرت البيانات أن 9 فئات سلعية من أصل 99 فئة معتمدة عالميًا استحوذت على أكثر من ثلثي قيمة الاستيرادات العراقية، ما يعطي صورة واضحة عن نمط استهلاكي محدود التنوع، وضعف في توجيه التجارة الخارجية لخدمة متطلبات التنمية طويلة الأمد.
وتصدّرت الأجهزة والمعدات الإلكترونية والكهربائية قائمة السلع المستوردة، تلتها المعادن الثمينة وعلى رأسها الذهب، ثم السيارات ومعداتها، إضافة إلى الأجهزة الميكانيكية، ولا سيما أجهزة التبريد، وهي سلع يغلب على جزء كبير منها الطابع الكمالي أو شبه الكمالي، في مقابل تراجع الاستيراد المرتبط بمدخلات الإنتاج أو الصناعات التحويلية.
عجز الميزان التجاري
ويُظهر هذا الواقع استمرار العجز المزمن في الميزان التجاري العراقي مع معظم دول العالم، باستثناء صادرات النفط الخام، حيث يكاد الميزان التجاري يميل بنسبة كاملة لصالح الدول المصدّرة، ما يعيني محدودية قدرة الاقتصاد العراقي على النفاذ إلى الأسواق الخارجية بسلع غير نفطية، أو تحقيق قيمة مضافة محلية.
وفي هذا السياق، حذّر الخبير الاقتصادي ناصر الكناني من اختلال خطير في الميزان التجاري العراقي، مؤكدًا أن "البلاد تستورد معظم احتياجاتها الأساسية مقابل تصدير شبه حصري للنفط الخام، وهو ضعف بنيوي في الاقتصاد الوطني وغياب حقيقي للاكتفاء الذاتي".
وقال الكناني لـ(المدى) إن "العراق لا يصدّر فعليًا سوى النفط الخام، في حين يستورد الغذاء والملابس والأدوية ومعظم السلع الاستهلاكية"، لافتًا إلى أن "سلة الغذاء العراقية تُشترى كاملة من الخارج، بما في ذلك محاصيل كانت تُعد منتجات محلية أساسية كالتمور".
وأوضح أن "حجم الاستيراد السنوي للعراق يصل إلى نحو 60 مليار دولار، إلا أن ما يدخل فعليًا من بضائع حقيقية لا يتجاوز 30 مليار دولار"، مشيرًا إلى أن "الفارق المالي الكبير يثير تساؤلات جدية بشأن المنافذ الحدودية وآليات الاستيراد والرقابة".
ماذا عن الأمن الغذائي؟
ويبرز ملف الأمن الغذائي كأحد أكثر جوانب هذا الاختلال حساسية، في ظل اعتماد العراق بشكل كبير على الاستيرادات الغذائية من دول محددة، ولا سيما تركيا، ما يضع جانبًا أساسيًا من الأمن الوطني تحت تأثير طرف خارجي واحد، في مشهد يشبه إلى حدّ بعيد التعقيدات المرتبطة بملف الأمن المائي.
بدوره، أكد الخبير الاقتصادي باسم أنطوان أن العراق يعتمد في استيراداته على دول محدودة بحثًا عن السلع الرخيصة، في وقت تتجه فيه دول أخرى إلى تنويع مصادرها والتركيز على الجودة، ما يجعل السوق العراقية ساحة مفتوحة للمنتجات الأقل كلفة.
وقال أنطوان لـ(المدى) إن "الاستيراد الحالي يعتمد بشكل شبه كامل على عائدات النفط، ما يعني خروج الدولار إلى الخارج دون خلق قيمة مضافة داخلية"، مبينًا أن "الأموال المتأتية من تصدير النفط كان من المفترض أن تُستثمر في بناء قطاع إنتاجي محلي قادر على تقليص الاستيراد وتشغيل الأيدي العاملة".
وأشار إلى أن "نسبة كبيرة من السلع المستوردة يمكن إنتاجها محليًا"، مؤكدًا أن "تقليص الاستيراد سيسهم في بقاء الأموال داخل البلاد، ويحد من معدلات البطالة والفقر، ويوفر فرص عمل حقيقية للشباب".
اقتصاد الاستيراد يبتلع السوق العراقي: أرقام تكشف اختلالاً مزمناً في الميزان الاقتصادي

نشر في: 15 ديسمبر, 2025: 12:29 ص









