TOP

جريدة المدى > خاص بالمدى > النساء الأيزيديات بين الأسر والمخيمات: معركة طويلة لاستعادة الهوية والانتماء

النساء الأيزيديات بين الأسر والمخيمات: معركة طويلة لاستعادة الهوية والانتماء

نشر في: 15 ديسمبر, 2025: 12:39 ص

المدى/ سيزر جارو
بعد أكثر من عقد على الهجوم الذي نفّذه تنظيم «داعش» في آب 2014، وما رافقه من استعباد وتهجير جماعي للمكوّن الأيزيدي، لا تزال معركة إعادة بناء الهوية والذات التحدي الأعمق أمام آلاف النساء الأيزيديات العائدات من الأسر. هذه المعركة لا تقتصر على المسارات القانونية أو واقع المخيمات، بل تمتد إلى صراع يومي لاستعادة الإحساس بالانتماء والأمان في مجتمع مزّقته الحرب والنزوح.
تعيش غالبية الناجيات الأيزيديات اليوم في مخيمات النزوح بإقليم كردستان، حيث تحوّلت سنوات اللجوء المؤقت إلى وضع شبه دائم. هذا الواقع يفاقم الشعور بفقدان الهوية، إذ تُختزل حياة المرأة في توصيفات مثل «نازحة» و«ناجية»، بدلاً من التعامل معها كفرد فاعل داخل المجتمع.
تقول ميران شيخ خلف (45 عاماً)، وهي إحدى الناجيات المقيمات في مخيم للنازحين بدهوك، في حديثها لـ«المدى»: «عندما عدنا، توقعنا العودة إلى منازلنا وأهلنا، لكننا وجدنا أنفسنا في خيمة. الخيمة تذكير دائم بالتهجير، والناس هنا ينظرون إلينا كـ(ناجيات)، وليس فقط كـ(ميران). هويتنا أصبحت محصورة بما مررنا به. كيف نربّي أطفالنا على الحرية ونحن نعيش في هذا القفص؟».
ورغم الجهود المبذولة للبحث عن المختطفين، لا يزال مصير أكثر من 2700 شخص أيزيدي مجهولاً حتى اليوم. وخلال السنوات الأخيرة، تصاعد القلق مع تقارير متقطعة عن وجود عدد من المفقودين في مناطق مختلفة من سوريا وتركيا، ما أعاد فتح جروح لم تندمل.
في هذا السياق، يشير جلال خليل، الناشط في مجال توثيق الجرائم المرتكبة بحق الأيزيديين، في حديثه لـ«المدى»، إلى أن «عمليات التوثيق لا تزال مستمرة، إذ تصلنا إفادات جديدة حتى اليوم. بعض النساء يُعثر عليهن مصادفة في مخيمات شمال شرقي سوريا، لكن إجراءات التحقق من الهوية وإعادتهن إلى العراق معقّدة جداً. الأزمة لم تنتهِ بالتحرير، فكل ناجية تعود تبعث الأمل، لكنها في الوقت نفسه تذكّرنا بآلاف المفقودين الذين ما زال مصيرهم مجهولاً».
تتداخل أزمة الهوية مع أزمة العودة إلى سنجار، فبرغم تحرير القضاء، فإن غياب الاستقرار الأمني والخدمي، وتعدد الإدارات والفصائل المسلحة، خلق بيئة طاردة بدلاً من أن تكون حاضنة للنازحين. هذا الواقع أسهم في انقسام داخلي عميق داخل المجتمع الأيزيدي بين مؤيد للعودة ورافض لها.
يوضح الأكاديمي والباحث الاجتماعي المتخصص في قضايا الأقليات، د. نزار حسين، في حديث خصّ به «المدى»، أن «العودة ليست مسألة رغبة فقط. بالنسبة للناجية، فإن العودة إلى سنجار التي ارتبطت بذكريات العنف والانتهاك تتطلب تأهيلاً نفسياً ومجتمعياً شاملاً قبل إعادة إعمار البنى التحتية. المجتمع الأيزيدي نفسه يعاني من انقسام حول كيفية التعامل مع الناجيات وأطفالهن، وهو ما يدفع كثيرات إلى البقاء في المخيمات، مفضلات ما يمكن تسميته (المنفى الآمن) على (الوطن الممزق)».
إقرار «قانون الناجيات الأيزيديات» في آذار 2021 شكّل خطوة مهمة نحو الاعتراف الرسمي بمعاناة النساء الأيزيديات، إضافة إلى السبيكات والتركمانيات والمسيحيات. القانون نصّ على توفير رواتب شهرية وقطع أراضٍ وفرص عمل، إلا أن تطبيقه لا يزال يواجه بطئاً بيروقراطياً ومشكلات تتعلق بالمخصصات المالية.
وتؤكد سوزان قاسم، المنسقة في إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة مع الناجيات في سهل نينوى، في حديثها لـ«المدى»، أن «القانون مهم من حيث المبدأ، لكن تنفيذه بطيء ومحبط. الناجية لا تحتاج إلى راتب فقط، بل إلى مظلة اجتماعية تحميها من الوصم والنبذ. نحن بحاجة إلى مراكز تعنى بإعادة بناء الهوية، وتعمل على تغيير نظرة المجتمع إلى الناجية بوصفها رمزاً للصمود لا وصمة. كما يجب دمج الناجيات بشكل فعّال في المؤسسات التعليمية والوظائف الحكومية لتعزيز شعورهن بالانتماء والمشاركة في بناء الدولة».
وتبرز في هذا السياق قضية أطفال الناجيات بوصفها أحد أعقد التحديات الدينية والاجتماعية والقانونية، إذ ترفض بعض الجهات الدينية الاعتراف بهؤلاء الأطفال، ما يعرقل إصدار وثائقهم الرسمية ودمجهم في المجتمع.
في ختام المشهد، يؤكد القاضي المتقاعد عدنان العبيدي، الخبير في شؤون العدالة الانتقالية، في حديثه لـ«المدى»، أن «العراق بحاجة إلى نموذج عدالة انتقالية شامل يتجاوز التعويضات المالية. المطلوب هو تفعيل محاكمات حقيقية لمرتكبي الجرائم وفق القانون العراقي، مع الاستفادة من الأدلة الموثقة دولياً. إحساس الناجية بأن العدالة تحققت جزء أساسي من استعادة هويتها وكرامتها، ولا يمكن إعادة بناء الذات في ظل إفلات الجناة من العقاب».
يبقى صوت النساء الأيزيديات منخفضاً، لكنه يحمل ثقلاً إنسانياً وتاريخياً كبيراً. فإعادة بناء هويتهن تمثل مفتاحاً لإعادة بناء مجتمع بأكمله، وهي مسؤولية لا تقع على عاتقهن وحدهن، بل على الدولة والمجتمع، لإخراج هذه القصص من ظلال الخيام إلى فضاء الحياة والعدالة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

مقالات ذات صلة

سباق محتدم: مفاوضات صعبة لتحديد رئيس البرلمان القادم

سباق محتدم: مفاوضات صعبة لتحديد رئيس البرلمان القادم

بغداد/ تميم الحسن يقترب ما بات يُعرف بـ«الإطار السني» من لحظة اختيار رئيس جديد للبرلمان. لكن الإعلان، على ما يبدو، لن يكون وشيكًا، إذ ما زال مرهونًا بموافقة بقية المكونات وشبكة تفاهمات أعقد مما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram