أحمد حسن
على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو للتعبير الحر. الوضعية قامت في تسليم الثقافة العراقية لمنطق تعبوي يخلق مخيلة جماعية ترى ما تريد السلطة فقط. بالتالي الذاكرة التي كانت ملكا للمجتمع أصبحت أرشيفا خاصا بالزعامات، توظف في ولاءات مثل الرايات والصور، لا كوسيلة لفهم الواقع.
بعد 2003، نشأت سلطة ثقافية مهمتها العمل على إنتاج سردية رسمية واحدة، هذه السردية تعيد تعريف العراق بوصفه "حقيقة مكتملة"، بينما تخفي انهيار الدولة وانحسار المؤسسات وتدهور المعنى المدني. لذلك الأحزاب الحاكمة لم تترك أي منفذ للتاريخ الوطني، فأقفلت كل النوافذ، ووسعت فقط مساحات الطقوس التي ترسخ الولاء قبل أي انتماء آخر. هكذا ولدت سردية بلا دولة، وطاعة بلا ذاكرة.
بالتالي يمكن تسمية القوى التي سيطرت على الدولة بعد الغزو بطبقة من الناهبين، نهبوا المال العام، ونهبوا الرموز، ونهبوا الذاكرة. أزاحوا العراق الحضاري من مركز وعيه، من الجاحظ وابن الهيثم والمتنبي والكندي، إلى رواد النهضة والزهاوي والرصافي وجعفر ابو التمن والشبيبي والملك فيصل الأول ورجال ومفكري الدولة الحديثة، هذه المصادر الحضارية أزيحت لصالح سرديات مغلقة تستفيد منها السلطة وحلقاتها فقط.
وسط هذا الانحدار في الوضعية العراقية، برزت فئة يمكن تسميتها بدقة "أمراء الصدفة"، وهم أشخاص لفظتهم التحولات إلى مقدمة المشهد من دون أي تاريخ مهني أو ثقافي، ومن دون معرفة حقيقية بماهية الثقافة. تولوا مناصب في مؤسسات حكومية مثل وزارة الثقافة، وجهات مراكز بحثية اتحادات ونقابات ثقافية وعلمية واكاديمية ووسائل اعلام لتصبح الثقافة في يد جهلاء ومدعومين من أحزاب نافدة في السلطة، فجعلوا من أنفسهم "أوصياء على الذاكرة" و"صناع ذائقة" تفرخ سلوكيات ومظاهر لا علاقة لها بالثقافة ، مظاهر دخيلة على الحضارة العربية والإسلامية وحتى المذهبية التي نعرفها .. وهكذا تحولت الإدارة الثقافية إلى فوضى، والخطاب إلى صراخ سياسي متنكر بثوب الثقافة. هؤلاء لم ينهبوا الماضي فقط .. فقد نهبوا المعنى والتاريخ والحضارة نفسها.
أحد أخطر أركان الهيمنة الجديدة هو نهب الطقوس. فالطقوس التي كانت تعبيراً عن الروح الجمعية أصبحت محركاً لحصر الوعي العام بما يتناسب مع ما تريده السلطة الحاكمة . تجربة صدام حسين كانت نموذجا مبكرا في تحويل المناسبات الدينية والوطنية إلى أدوات تمجيد للنظام، لكن ما حدث بعد 2003 تجاوز ذلك، أصبحت الطقوس الاجتماعية والتاريخية والدينية أدوات استثمار سياسي واقتصادي لصالح أحزاب تريد تشكيل عقول العراقيين لا الاحتفاء بالمناسبات.
مدرسة فرانكفورت تسمي هذا "تشييء الطقس"، أي عندما تتحول الطقوس من تعبير عن المجتمع إلى جهاز لإنتاج الطاعة. وهذا ما يحصل في العراق إذ تحولت الطقوس إلى مصانع ولاء لشخوص تستهلك المناسبة وتعيد إنتاج الشخوص الحاكمة الى الواجهة مجددا، لذلك هم نهبوا الطقوس .. طقوس العراقيين التي تربوا عليها والتي يسترجعون فيها ذاكرتهم. هنا يمكن للمثقفين الحقيقيين والأصليين في العراق التفكير في كيفية استعادة العراقيين لطقوسهم المنهوبة، وإرجاع سرديتهم التي تصنع الوطنية والمحبة والود بين العراقيين، وتعزز التضحية والوفاء، كما هي الحال في طقوس عاشوراء العظيمة والمناسبات الوطنية والتاريخية.
مع انحسار الدولة وتضخم سلطة النهب للطقوس والذاكرة، فقدت المدن ذاكرتها المدنية. المحافل أصبحت وسائل لتفسير العراق وما يحيط به من دول وأحداث وفق سردية الزعماء الحاكمين. لذا نجد أن الجامعة تحولت إلى فضاء للسطحية، ووسائل الإعلام أصبحت حفلات شتائم وبذاءة، والمكتبات هياكل فارغة بلا قراءة، والمقاهي جلسات للمصالح. وفي النهاية، يلتهم اقتصاد السوق الذي تسيطر عليه الأحزاب كل شيء، المعنى والذاكرة والتاريخ والإنسانية والمواطنة قبل الموارد.
حتى الهوية صارت تعرف من خلال طقس الزعيم، لا من خلال التاريخ المشترك او المواطنة. العراق شهد تحولات جيلية، جيل الملكية رأى العراق مشروعا مدنيا، وجيل السبعينيات والثمانينيات عاش في ظل مشروع سلطوي، وجيل ما بعد 2003 يعيش داخل غرف الطقوس. بين هذه الفترات فجوات سوداء تبتلع الروايات وتمنع قيام ذاكرة وطنية.
غياب الأرشيف الوطني ليس صدفة أو إهمالاً. الغياب يندرج ضمن سياسة مقصودة، أرشيف بلا وثائق، تاريخ بلا مرجعيات، تعليم بلا ذاكرة. إنها عناصر مشروع لإحلال مخيلة جديدة، تعمل على تشكيل العراقي من الداخل. ولان عندما يمسح الأرشيف، لا يبقى سوى سردية السلطة. إعادة كتابة التاريخ ليست نشاطا أكاديميا فقط، إنها فعل مقاومة، فتح الأرشيفات، واستعادة الصحف، وإحياء قصص التأسيس، وإرجاع رواد النهضة إلى مركز السرد. فالذاكرة ليست ترفاً، إنها قوة مضادة، وسلاح المجتمع ضد الطقوس المنهوبة وضد الناهبين وأمراء الصدفة.
ما نريد فهمه هو، ان العراق في القرن 21 أمام خيارين، اما البقاء داخل ذاكرة طقسية منهوبة تعيد إنتاج العمى لتمنح الشرعية للساسي، أو مشروع وطني يعيد للذاكرة معناها وللدولة مكانتها. لان السلطة التي تخشى التاريخ تخشى اللحظة التي ينظر فيها العراقي إلى نفسه خارج قبضة الطائفة ، والزعيم السياسي الناهب وأمراء الصدفة.









