عبد الكريم البليخ
لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك الذي جعل من قلمه مرآةً ناصعة تعكس ما يحدث في الواقع من صور سلبية وإيجابية، لكنه ـ أكثر من أي أحد ـ كان معنياً بما يعانيه الناس ويقفون عنده من وجع.
الكاتب الحقيقي لا يكتب لأن الكتابة هواية مسلية، ولا لأنها مهنة تدرّ المال فحسب، بل لأنه لا يستطيع إلا أن يكتب. الكتابة بالنسبة له فعل وجودي، أشبه بالتنفّس. هي وسيلته لتسليط الضوء على العتمة، ومواجهة ما يُخفيه المجتمع من تناقضات. عليه أن يُواكب المشكلات، أن يُلاحقها بعينه وقلبه، ثم ينقلها للناس بلا رتوش.
في الرواية قد يرسم الكاتب شخصية بائسة تعيش على هامش المدينة، وفي القصة القصيرة قد يختزل حياة إنسان في لحظة انهيار أو بصيص أمل، وفي المسرح يُعرّي واقعاً اجتماعياً على الخشبة ليضعه أمام الجمهور، وفي بيت شعر قد يلخّص كل المأساة الإنسانية في صورة بلاغية واحدة. أما في المقال أو التحقيق الصحافي، فهو يضع الحقائق كما هي، موثّقة وشفّافة، لتتحول الكلمة إلى شهادة حيّة.
الصدق هو العمود الفقري للكتابة. ليس صدق المعلومات فقط، بل صدق الرؤية، وصدق الشعور. فالنص الذي يخلو من الصدق، مهما كان مزخرفاً، ينهار سريعاً. أما النص الذي يخرج من قلبٍ صادق وعقلٍ متبصّر، فإنه يعيش طويلاً، ويصبح مرجعاً في الذاكرة الجمعية.
الصحافي على وجه الخصوص هو مرآة الناس. فإذا انكسرت هذه المرآة بالتزييف، ضاع انعكاس الحقيقة. الكذب في الصحافة، كما في الأدب، مساره قصير، أشبه بجدار هشّ ينهار مع أول هبّة ريح. الكاتب الذي يبيع قلمه لقاء دراهم معدودة لا يخدع إلا نفسه، أما الناس فإنهم سرعان ما يدركون زيف ما يُقدَّم لهم.
الكاتب الحقيقي هو من يضع إصبعه على الجرح. في المدن القديمة، حين سادت الطقوس والأساطير، كان الشعراء ينشدون عن ظلم الملوك أو معاناة الفقراء. في بغداد العباسية، كان الجاحظ يكتب مقالاته التي تفضح السلوك الاجتماعي وتفكك البنى الثقافية المتهالكة. في أوروبا عصر التنوير، حمل فولتير وروسو أقلامهم ليهاجموا الاستبداد والجهل، فمهّدوا لثورات غيرت وجه التاريخ.
المجتمع، بطبيعته، يَميل إلى إخفاء أمراضه خلف واجهات براقة. العمارة الفخمة قد تخفي العشوائيات وراءها، والاحتفالات الصاخبة قد تحجب الصمت المطبق في بيوت الفقراء. وهنا يأتي دور الكاتب الحقيقي، لا ليكتفي بوصف الواجهة، بل ليخترقها ويكشف ما وراءها. الكتابة إذن ليست ترفاً، بل هي عمل أشبه بالتنقيب في طبقات الأرض بحثاً عن الحقيقة المدفونة.
النفس البشرية بطبيعتها تميل إلى تجميل صورتها. كل فرد يريد أن يبدو متماسكاً أمام الآخرين. لكن الكاتب ـ حين يكتب بصدق ـ يُعرّي هذا التماسك الزائف. إنه يضع القارئ أمام ذاته كما هي، لا كما يريد أن يراها. وهذا فعل مؤلم، لكنه ضروري.
الكتابة هنا تتحول إلى مرآة داخلية. القارئ حين يقرأ نصاً صادقاً يرى شيئاً من نفسه فيه. قد يرفض ذلك، قد يَغضب، لكنه في النهاية يبدأ رحلة مواجهة مع ذاته. بهذا المعنى، يصبح الكاتب الحقيقي معالجاً للجروح النفسية، وإن كان علاجه مؤلماً في البداية.
كما يبني المعمار جدراناً وأعمدةً وسقوفاً، يبني الكاتب نصوصاً وأفكاراً وصوراً. العمارة الجيدة تصمد في وجه الزمن، والكتابة الجيدة كذلك. المباني قد تشيّد لتبهر الناظرين لكنها سرعان ما تنهار إن كانت بلا أساس، وكذلك النصوص. النصوص التي تُبنى على الزيف سرعان ما تُنسى، أما تلك التي تُبنى على الصدق فتصمد وتصبح علامات فارقة في تاريخ الأدب والفكر.
المدينة التي تخلو من العمارة المتينة تتحول إلى أنقاض، والمجتمع الذي يخلو من الكتابة الصادقة يتحول إلى فراغ. لذلك كان الكاتب، في جوهره، معمارياً للوعي، يبني مدناً من الكلمات تفتح أبوابها للقارئ كي يسكنها ويتأملها.
التاريخ لا يكتبه السلاطين وحدهم، بل يكتبه الكتّاب أيضاً. فكم من حاكمٍ طغى ثم ضاع اسمه، لكن نصاً أدبياً كتبه كاتب مجهول ظل باقياً يروي تفاصيل ذلك الزمن. الأدب هو الذاكرة الحقيقية للأمم.
عندما نقرأ مذكرات المعتقلين السياسيين أو قصائد الشعراء في المنافي، فإننا لا نقرأ فقط عن أشخاص، بل عن حقبة كاملة. هؤلاء الكتّاب جعلوا من معاناتهم مادة للكتابة، فتحولت نصوصهم إلى شهادات تاريخية. وهنا تكمن عظمة الكاتب الحقيقي: أنه يكتب لا من أجل نفسه فقط، بل من أجل أن تبقى الحقيقة حيّة للأجيال القادمة.
الكاتب دائماً في موقع مواجهة. السلطة ـ أي سلطة ـ لا تحب الكلمة الحرة، لأنها تهدّد صورتها. المجتمع نفسه قد يرفض الكاتب حين يُواجهه بعيوبه. حتى الأقارب والأصدقاء قد يبتعدون عنه حين يشعرون أنه يكشف ما يفضّلون إخفاءه.
لكن الكاتب الحقيقي لا يتراجع. هو يدرك أنَّ الكتابة مسؤولية، وأن الصمت خيانة. كل كلمة يكتبها قد تكون خطرة، لكنها أيضاً خطوة نحو الحرية. لذلك كان كثير من الكتّاب عبر التاريخ ضحايا السجون والمنافي. غير أن نصوصهم، مع ذلك، بقيت شاهدة على أن الحرية لا تُقمع.
على الرغم من سوداوية الواقع أحياناً، يبقى الكاتب الحقيقي رسول أمل. هو لا يكتب ليُغرق الناس في اليأس، بل ليكشف لهم طريق الخروج. الكلمة الصادقة، مهما كانت قاسية، تفتح نافذة صغيرة يدخل منها الضوء. لهذا قيل إن الأدب العظيم هو الذي يجعل القارئ يرى نفسه في النص، ثم يبتسم وهو يشعر أن ثمة أملاً في التغيير.
الكاتب إذن ليس ناقلاً للوجع فقط، بل صانعاً للرجاء. وهو حين يكتب بصدق عن قسوة الحياة، يجعل من الكتابة جسراً نحو حياةٍ يُمكن أن تكون أفضل.
الكاتب الحقيقي ليس مجرد فرد يكتب نصوصاً، بل هو مؤسسة قائمة بذاتها. هو ضمير حيّ، وذاكرة أمة، ومعماري وعي، ومرآة نفس، وصوت من لا صوت له.
الكاتب الذي يساوم على قلمه يخرج من دائرة التاريخ سريعاً، أما الكاتب الصادق فإنه قد يُسجن أو يُنفى أو يُهمّش، لكن نصوصه تبقى، شاهدة على عصره، ودليلاً للأجيال المقبلة.
الكتابة هنا تتحول إلى قدر، لا يستطيع الكاتب أن يهرب منه. قد يحاول، لكنه يعود دائماً إلى الورقة البيضاء. لأن الحقيقة، مهما كانت قاسية، تحتاج من يقولها. والكاتب الحقيقي هو من يقبل أن يكون حامل هذه الرسالة، حتى لو دفع ثمنها من حياته الخاصة.
وهكذا، يبقى الكاتب الحقيقي، في كل الأزمنة والأمكنة، مرآةً كاشفة للحقيقة، وصوتاً للإنسان، وشاهداً على أن الكلمة الصادقة لا تموت.









