أحمد الناجي
ولد سامي سعيد الأحمد (1930-2006) في أحد بيوت محلة (المهدية) بمدينة الحلة. نشأ في كنف عائلة ميسورة، وكان من أبرز ما يسجل من أحداث في طفولته أنه زار وهو ما يزال صغيراً متحف الآثار العراقية برفقة والده في إحدى رحلاته الى مدينة بغداد. تركت تلك الزيارة أثراً عميقاً في نفسه، إذ أيقظت في دواخله أسئلة كثيرة، وظل صداها مرتسماً في مخيلته، حتى غدت جزءاً من وعيه الباطن، لتتجلى أثارها واضحة مع تقدمه في العمر، وتكون أحد العوامل التي رسمت مسيرته العلمية فيما بعد.
أكمل سامي مراحل دراسته الأولية في مدينته الحلة، حيث التحق أولاً بمدرسة الحلة الشرقية، ومن الجدير بالذكر أنه لفت أنظار أساتذته منذ الصغر، ولاسيما معلم المدرسة الأستاذ قاسم خليل، الذي وجد فيه شغفاً واضحاً بمادة التاريخ، فعمل على تنمية هذا الميل وتشجيعه، وقد أنهى دراسته الابتدائية متفوقاً في السنة الدراسية ١٩٤١-1942، ونال في الامتحانات العامة (البكالوريا) لتلك السنة درجة متميزة في مادة الاجتماعيات بلغت (٨٧)، مما يدل إلى نبوغه المبكر في مادتي (التاريخ والجغرافية) معاً.
وتعززت ميوله نحو مادة التاريخ في المرحلة الثانوية، حين تولى تدريسه المدرس المتميز الأستاذ عبد الجليل جواد -الذي نال لاحقاً درجة الدكتوراه في اختصاص عصور ما قبل التاريخ- فكان له أثر بالغ في صقل موهبته وتنمية اهتمامه بالتاريخ، إذ حبب اليه هذا العلم بوصفه مرآة الزمان، وهو ما يزال في مقتبل العمر، وقد أنهى دراسته الثانوية سنة 1948 بعدما أن اجتاز الامتحانات العامة بتفوق لافت.
انشغل سامي بأطلال بابل الأثرية الماثلة على مقربة من مدينة الحلة، فنشأ متطلعاً الى اكتشاف ما انعكس في خياله من تلك الأمكنة المغوية الشاخصة أمام ناظريه، والتي تمثل بقايا الأثر الإنساني الممتد من أعماق الأزمنة السحيقة. كان ينصت لأصوات غامضة.. قادمة من بابل، سيدة العالم القديم، تستثير فيه فضول المعرفة، فيسعى الى الامساك بأصدائها، كانت عين منه تتابع ما في الكتاب المدرسي، فيما تصغي الأخرى لما يتناهى الى سمعه من همسات الأطلال الحافلة بحكايات البدايات الأولى للتاريخ، ومع الأيام اتسعت دائرة اهتمامه وتوغلت في الأعماق، ومع تراكم الخبرة والمعرفة أخذ شغفه بالتأمل يكبر شيئاً فشيئاً، لتتوالد الرغبات، وتتسع الآمال نحو مزيد من الاستزادة والمعرفة.
مال الطالب الشاب في بداية تكوينه الثقافي الى ما في درس التاريخ من إثارة تحفز تفكيره وتدفعه الى المتابعة والبحث، وظل يثابر ويحث الخطى نحو التعمق في دراسة أولى عتبات التاريخ، بعزيمة لا تفتر، وحماس لا يهدأ، ولم يخب في مساعيه، إذ بلغ مقصده، محققاً رغبته في التخصص بدراسة التاريخ في دار المعلمين العالية ببغداد، وقد جد واجتهد، حتى نال شهادة البكالوريوس سنة 1952، تتويجاً لمسيرته الدراسية على مدى أربع سنوات من المثابرة والجهد المتواصل. وأخذت يه وظيفة التدريس الى ميدان العمل، فعيّن مدرساً لمادة التاريخ في عدد من المدارس خارج مدينته، متنقلاً بين مدن النجف والكوفة وطويريج (الهندية). وخلال تلك الفترة نشر بعض الدراسات التاريخية على صفحات جريدة (صوت الفرات)، وهي جريدة يومية صدرت في مدينة الحلة بتاريخ 11 تشرين الأول 1951، وتحولت الى اسبوعية، وبقيت مستمرة حتى العدد (53)، إذ توقفت بتاريخ 22 تشرين الثاني 1952. تناول فيها موضوعات متنوعة من حقول التاريخ، منها على سبيل الإشارة: ابن الراوندي وأصل السومريين والحركة الرومانتيكية. وقد برزت في تلك البواكير ملامح المؤرخ الموهوب والباحث الدقيق، إذ اتسمت كتاباته الأولى بوضوح المنهج ودقة التوثيق وموضوعية التحليل.
وكما هي الحياة، لا تني غالباً ما تأتي بالجديد، فبعد مضي فترة من الزمن، انتدبته وزارة المعارف لإكمال دراسته العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، فالتحق في منتصف خمسينيات القرن الماضي بالبعثة العلمية لدراسة التاريخ، لتأخذه انعطافة الحياة في رحلة شاقة نحو آفاق المعرفة في بلاد الغرب، وقد انحازت الأقدار الى ما في مداركه من ميل ورغبة، حين اختص بدراسة تاريخ الحضارات القديمة، فمضت الأيام في صيرورة جسدت ما كان يخفق به قلبه من هوى، إذ اختار التاريخ القديم مجالاً لتخصصه، منسجماً مع انجذابه الى سحر بابل وعظمتها، فتسلل الى عوالمها القديمة من بوابة جامعة شيكاغو. وهناك وهو بعد طالب نشد الاستقرار، فتزوج من فتاة أمريكية. ونال شهادة الماجستير سنة 1957، ثم واصل مسيرته العلمية بثبات ومثابرة، حتى أتم دراسته العليا، فنال شهادة الدكتوراه بمرتبة متفوقة من جامعة ميتشغان سنة 1962، وقد أتاح له تفوقه اللافت فرصة العمل في جامعة دينفر بولاية كولورادو بدرجة (أستاذ مساعد) لتدريس مادة التاريخ القديم. أقام هناك قرابة خمس سنوات بين عامي 1963-1967. قدم خلالها عطاء علمياً نوعياً، تمثل في إنجاز كتب رصينة ودراسات أكاديمية مرموقة في حقل التاريخ القديم، نشرت ولاقت صدى واسعاً في الأوساط المتخصصة، مما أسهم في ترسيخ مكانته الأكاديمية، وتأكيد تميزه في مجاله. وبدأ يلمع نجمه في الأوساط العلمية، حتى اجتمع حوله أهل الاختصاص هناك –وكان في مقدمتهم المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي- فأصبح بمثابة مرجع لهم، وظل دؤوباً مستمراً في تلبية رغبته في البحث والتدوين، لتصبح أعماله من المراجع التاريخية الهامة، لاسيما حين ربط بين (الإنسان والأرض) أي بين حقلي التاريخ والجغرافيا، وقد لخص هذا التوجه بقوله: "التاريخ بلا جغرافيا، هو علم بلا هوية"، ومن خلال رصانة انجازاته المعرفية، تمكن من تكريس اسمه بين أبرز المؤرخين في المشهد العالمي المعاصر، مؤكداً مكانته الأكاديمية والفكرية على نطاق واسع.
عاد للعراق أواخر الستينيات، حيث تم تعينه أستاذاً في قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة بغداد، وتوزعت جهوده في الأجواء الأكاديمية ما بين التدريس والبحث العلمي، ولم يخفت طموحه، بل واصل مسيرته المعرفية في حقل التاريخ القديم، واكتسب الدكتور سامي سعيد الأحمد شهرةً واسعة في الأوساط الأكاديمية خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، وبفضل جهوده البحثية التي تمحورت حول الجانب العلمي، وتميّزت بطابع الحياد والموضوعية، فقد شارك في عددٍ كبير من الندوات الثقافية والمؤتمرات العلمية، محليةً كانت أم عربيةً أو عالمية. وقد أثرى المكتبة العراقية والعربية بعدد من المؤلفات الرصينة التي تناولت موضوعات هامة حول تاريخ الحضارة في العراق القديم، فضلاً عن شعوب المنطقة العربية في الأزمنة القديمة، كما ترجم بعض الكتب الأجنبية، وأنجز عدد كبير من الدراسات والبحوث التاريخية، وقد قام بنشرها في عدد من الدوريات المتخصصة -يصعب حصرها- نذكر أبرزها على سبيل الإشارة: مجلة (سومر) ومجلة (المجلة التاريخية) ومجلة (المورد) ومجلة (التراث الشعبي) ومجلة (المؤرخ العربي). ومن أبرز مؤلفاته: (الإسلام نظرياً وعملياً، باللغة الإنجليزية، 1965). و(جنوب العراق في زمن الملك أشور بانيبال، باللغة الإنجليزية، 1968). و(الأسس التاريخية للعقيدة اليهودية، 1969). و(الأصول الأولى لأفكار الشر والشيطان، 1970). و(الإله زووس مقدمة في دراسة الاعتقاد بزووس حتى اضمحلال روما، 1970). و(اليزيدية.. أحوالهم ومعتقداتهم، جزآن، 1971). و(السومريون وتراثهم الحضاري، 1975). و(العراق القديم.. العراق حتى العصر الأكدي، جزآن، ج1، 1978. ج2، 1983). و(تاريخ فلسطين القديم، 1979). و(آثار بلاد الرافدين، سيتون لويد، 1980. ترجمة). و(حضارات الوطن العربي كخلفية للمدنية اليونانية، 1980). و(المدخل إلى تاريخ اللغة الجزرية، 1981). و(رحلة الكاردينال العراقي إلياس حنا الى امريكا، انطوان رباط، 1982. ترجمة من العربية الى الإنكليزية). و(ملحمة كلكامش، 1984). و(تاريخ الخليج العربي.. من أقدم الأزمنة حتى التحرير العربي، 1985). و(تاريخ الرومان، 1988). و(المعتقدات الدينية في العراق القديم، طبعة 1988. وطبعة أخرى في 2013، لم يذكر رقم الطبعة). و(تاريخ الشرق القديم، 1988. بالاشتراك مع جمال رشيد أحمد). و(سمير أميس، 1989). و(الخليج العربي في التاريخ القديم، 1989). و(الأدب في العراق القديم، 1990). و(تاريخ الشرق الأدنى القديم.. إيران والأناضول، 1994. بالاشتراك مع رضا جواد الهاشمي). و(حضارات الوطن العربي القديمة أساساً للحضارة اليونانية، 2003). و(تاريخ العراق في القرن السابع قبل الميلاد, 2003).
الدكتور سامي سعيد الأحمد.. مدونات التاريخ القديم بين وضوح المنهج ودقة التوثيق

نشر في: 17 ديسمبر, 2025: 12:01 ص








