عبده وازن
فاجأ رحيل الروائي السعودي الفرنكوفوني أحمد أبو دهمان عن 76 سنة، الوسط الأدبي السعودي والعربي والفرنسي، وصدم أصدقاءه الذين كانوا على تواصل معه قبل أيام من غيابه. ولئن لم يكتب أبو دهمان سوى كتاب واحد هو "الحزام" بالفرنسية ثم بالعربية، فهو تمكن من تحقيق ظاهرة روائية نادراً ما عرفها الأدب الفرنكوفوني والعربي.
تحولت رواية "الحزام" للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان بعيد صدورها عام 2000 بالفرنسية عن دار غاليمار، "أسطورة"، أسطورة شخصية، وأدبية، فرنكوفونية سعودية وعربية، لا سيما بعدما تخطت طبعاتها الفرنسية الإحدى عشرة خلال فترة قصيرة، وهذا رقم مهم جداً في حسبان الناشر الفرنسي، (دار غاليمار)، إضافة إلى طبعة كتاب "الجيب" الشعبية وطبعة "ضعاف البصر"، وهذه طبعة فريدة. هذا عطفاً على ترجماتها العالمية التي لقيت ترحاباً لدى الجمهور والصحافيين. وصدرت الرواية في ترجمتين بالإنجليزية واحدة في إنجلترا وأخرى في الولايات المتحدة. وطبعتان بالإسبانية في إسبانيا والمكسيك. وترجمت إلى الألمانية والهولندية والبولندية.
وحققت أيضاً الترجمة العربية لهذه الرواية السعودية الفرنكوفونية الأولى، التي أنجزها المؤلف بنفسه، أرقاماً غير مسبوقة، ظلت إلى ازدياد. وبقدر ما جلبت هذه الرواية لصاحبها من شهرة تخطت فرنسا، جلبت له متاعب وإن قليلة، ووضعته أمام سؤال الكتابة: ماذا بعد "الحزام"؟
النجاح اللامتوقع لهذه السيرة الذاتية التي كتبها أحمد أبو دهمان بجرأة وعمق وشفافية، أوقع الكاتب السعودي الفرنكوفوني في حال من القلق والحيرة. فهو لم يكن يتصور أن تحظى الرواية بهذا الرواج العالمي وأن يصبح هو تحت الأضواء، كاتباً سعودياً فرنكوفونياً، توجه إليه دعوات أدبية كثيرة، خصوصاً في العالم الفرنكوفوني. وقد حملت الرواية مفاجأتين عام 2007 في فرنسا، تتمثل الأولى في اعتماد المدارس الثانوية المهنية في باريس الرواية كمادة أساسية في الأدب الفرنكوفوني، وقدم المسؤولون قراءة نقدية عميقة، في نحو اثنتين وثلاثين صفحة نشرت في شبكة الإنترنت. أما المفاجأة الثانية فهي اختيار وزارة التربية الفرنسية "الحزام" في امتحان الثانوية العامة هذه السنة، في خمسة عشر بلداً فرنكوفونياً، للطلبة الذين اختاروا العربية كلغة حية ثانية.
في رواية "الحزام" يستعيد أبو دهمان عالم قريته الجبلية في جنوب السعودية، ويقدّم سردية بين الرواية والسيرة الذاتية، ذات نفس غنائي ووجداني، وبعد أنثروبولوجي نظراً إلى ارتباطها بالمكان الفريد.
يعود الراوي إلى طفولته في قرية ريفية منغلقة على ذاتها، تحكمها تقاليد صارمة، ومعتقدات قديمة، وعلاقة متينة بالطبيعة. فيقدم لوحات ومشاهد من الحياة اليومية وذكريات غارقة في الوجدان الشخصي مما يضفي عليها نبرة من الحنين والشوق. فالقرية هي مكان الحماية والطمأنينة والانتماء، على رغم فضائها المغلق، والعزلة التي تعيش فيها. تحضر الطفولة هنا بصفتها الزمن الذي تتشكّل فيه الهوية تحت وطأة الطقوس الجماعية، والتقاليد الاجتماعية، والدين، والثقافة الشفوية.
أما "الحزام"، الذي يضعه رجال القرية، فهو علامة على الرجولة، والشرف، والانتماء إلى الجماعة، واستمرار القيم الموروثة. وهو يرمز كذلك إلى الانتقال من الطفولة واليفاع إلى عالم الرجولة والذكورة، والتزام تقاليد صارمة. لكن هذا الحزام يمثل أيضاً قيداً. فهو يشدّ الجسد كما تشدّ الأعراف الفرد، ويمثل الضغط الاجتماعي وثقل القيم الجماعية وصعوبة الخروج عنها. وتند الرواية عن الصراع المعلن أو المضمر، الارتباط العميق بالجذور والرغبة الشائكة في الانعتاق.
يمكن قراءة "الحزام" ببعدها الإثنوغرافي، نظراً إلى غناها بالتفاصيل التي تتعلق بالحياة اليومية، مثل الطقوس، والزراعة، والعلاقات العائلية، والفروق بين الجنسين، والمعتقدات الشعبية، والأساطير والخرافات وحكايات الجنّ، والأحلام وعلامات الغيب. علاوة على حضور الطبيعة الجبلية، والضوء، والأصوات، والروائح، والصمت. ونجح أبو دهمان في رسم صورة سردية فريدة عن بيئة قروية قبل الطفرة النفطية، بعيداً عن الصور النمطية السياسية أو الحضرية الشائعة.
وقد رأى بعض النقّاد الفرنسيين في أسلوب الرواية شكلاً من أشكال الواقعية السحرية، لا بوصفه تقليداً للتيار الأميركي اللاتيني، بل بصفته تعبيراً طبيعياً عن ثقافة تتعايش فيها الأسطورة مع الواقع بلا تناقض ولا تنافر.
"الحزام" رواية عن الذاكرة، والهجرة، والفقدان. ومن خلال أسلوب بسيط في ظاهره، عميق في دلالاته، ينجح أبو دهمان في إحياء عالم في طريقه إلى الأفول مثل الكثير من التراث الشعبي في العالم.
لعل الرواج الذي حظيت به رواية "الحزام" نادراً ما عرفته رواية فرنكوفونية عربية. ترى ما كان سر هذا النجاح الفرنسي والعالمي؟ بل ما كان سر نجاح الرواية عربياً بعدما صدرت عن دار الساقي العام؟ إنها رواية بديعة تقدم عالماً يجهله القراء، عرباً وأجانب، عالماً قابعاً في عمق ذاكرة هذا الكاتب السعودي، ببراءته وإلفته وغرابته... عندما سافر أحمد أبو دهمان إلى باريس في مطلع الثمانينيات الماضية ليكمل دروسه الجامعية، صدمته هذه المدينة الكوزموبوليتية. وعوض أن يتخلى عن ذاكرته على مر الأيام ازداد تعلقاً بها. احترف اللغة الفرنسية لكنه لم يصبح فرنسياً في أي لحظة. الحنين الذي تضج به رواية "الحزام" يدل على انتمائه الأول والأخير إلى بلاده. في باريس اكتشف أبو دهمان العالم الجديد والثقافة الأخرى، اليومية والفكرية. كانت اللغة الفرنسية نافذته على آداب الشعوب وثقافاتها. وعندما كتب "الحزام" بدا واضحاً ذلك المزيج من الوعي اللغوي المكتسب واللاوعي اللغوي العربي. وقد يكون هذا المزيج هو سر النضارة التي تحلت بها لغته الفرنسية.
ظل أحمد أبو دهمان سعودياً، بالقلب والذاكرة، بالوجدان والمخيلة. ظل مشدوداً إلى جذوره. في باريس كان يشعر بأنه مواطن من العالم، يحب المدينة كغريب عنها، كإنسان عابر، ولكن ليس إلى جهة معينة. وبين حين وآخر كان يصيبه "سأم" باريس، بحسب عبارة الشاعر بودلير، لكنه يجد نفسه عاجزاً عن إعلان أي قرار. الكاتب الذي نشأ تحت شمس الصحراء ظلت تفتنه الصحراء، على رغم استقراره وزواجه من فرنسية وإنجابه ابنة كانت هي وردة حياته. وكم كان يحلو له أن يعرض في بيته الطبعات الفرنسية الإحدى عشرة لروايته "الحزام"، عطفاً على طبعات أخرى.
كلما كنت ألتقي أحمد أبو دهمان في باريس أو بيروت أسأله عن "أزمة" الكتابة التي يعانيها بعد "الحزام" وهل كان يحضر عملاً جديداً ينتظره قراؤه بعد فترة من الصمت غير قصيرة عقب صدور روايته الأولى. أجابني مرة قائلاً: "لقد انتظرت زهاء خمسين سنة كي أكتب "الحزام". وليس لدي يقين بأنني ذلك الكاتب المنتظر، بينما أعرف أنني كاتب منتظر. كان علي أن أتخلص من تبعات "الحزام"، من تلك الضجة التي لم أبحث عنها أبداً. من أولئك القراء الذين ينتظرونني عند الباب. أما وقد خفت آثار ذلك المجد والشهرة وعدت إلى براءتي المعهودة، إلى شهوة الكتابة ومتعتها العالية، فقد بدأت فعلاً كتابة عملي الثاني وعنوانه "عندما كنت سعودياً’’ بعدما انتظرته طويلاً قبل الآخرين. وفيه حديث عن ذلك السعودي الشهم الكريم البريء الذي كنته. عن ذلك السعودي الذي لا يعرف من الزمن إلا يوم الجمعة وشهر رمضان. ذلك السعودي الذي لا يرى فيه الآخرون إلا النفط والشهوات والنزوات. إنه إعادة قراءة لذلك البدوي القروي الجبلي المتعدد أمام تعددية فرنسا وأوهامها. أمام التاريخ، أمام الجغرافيا، أمام الثقافات. أمام الزمان والمكان أمام الإنسان الذي كنته والذي أصبحته. أمام خساراته العقائدية والوطنية والديمقراطية. أكتبه في غرفة ضيقة جداً استأجرتها قبل فترة ولا تطل إلا على نفسي، وليس فيها من أثاث إلا جسدي وأقلامي وأوراقي. كما تقول حبيبتي. غرفة لا تتسع ألا لسعودي مثلي. وعندما أدخلها أقول: بسم الله الرحمن الرحيم».
كيف كان يرى أبو دهمان حياته في باريس هو الكاتب الفرنكوفوني الذي لا يستطيع إلا أن يكون سعودياً. كيف يعيش حال الازدواج هذه. يقول إنه بينما كان يكتب نصه الجديد "عندما كنت سعودياً" كان يدرك أنه ليس فرنكوفونياً. ويقول: "كنت مع عدد من الأصدقاء أعلنا رفضنا لهذه التسمية، خصوصاً نحن الذين لم يكن بيننا وبين فرنسا أية علاقة، إلا امتلاكنا للغتها وهذا حق انتزعناه. ولأننا نجيد الكتابة بلغاتنا الأم فإننا لم نجد صعوبة في الكتابة بالفرنسية، بل وأثريناها وشرفناها باعتراف الفرنسيين أنفسهم. ولذا أهديت "الحزام" إلى بلادي، إلى الجزيرة العربية».
في عام 2007 اختير أحمد أبو دهمان بين عدد من الأدباء الفرنسين والعالميين ليكتب نصاً عن ظاهرة «تنتان» في الذكرى الخامسة والسبعين لانطلاقه. وجمعت النصوص في كتاب فني (إعداد تيلراما، منشورات مولينسار) عنوانه «نحن تنتان». وشارك فيه أدباء بارزون: ميشال سير، وليام بويد، إريك أورسينا، يان كيفيلك، باتريك رامبو، جان روا، جيلبير سينويه، أندريه فلتير.
و"تنتان" شخصية من أبرز شخصيات "الشرائط المرسومة" في فرنسا وأوروبا والعالم، ولد عام 1929 بريشة الرسام البلجيكي الأصل جورج ريمي الذي اختار أن يوقع الرسوم والألبومات باسم هرجيه (أو إرجيه). ومنذ انطلاقته أصبح تنتان بطلاً شعبياً ذائع الصيت وصاحب مغامرات طريفة، حزينة وسعيدة، طفولية ورهيبة. واستطاع أن يغزو حياة الأطفال والفتيان والكبار. ولقيت مغامراته التي توالت منذ خمس وسبعين سنة صدى لدى الأدباء والفنانين والمثقفين فراحوا يدمنون قراءة الألبومات متابعين قصص هذا الفتى ذي الخصلة الناتئة في شعره والذي جاب العالم كله مندفعاً إلى أجمل المغامرات وأخطرها في أحيان. وما فعله هذا البطل "المرسوم" والشخصيات التي رافقته لم يفعله إلا أبطال قلة.
ولئن ترجمت "ألبومات تنتان" إلى لغات شتى فهو لم يحظ في العربية بأي ترجمة، تبعاً لابتعاد القارئ العربي عن مثل هذا الجو من المغامرات وعن مثل هذا الأسلوب في كتابة القصص المصورة أو المرسومة.
إلا أن أحمد أبو دهمان نجح في كتابة قصة شبه خرافية تدور في الصحراء العربية، وأدخل فيها كتاب تنتان وجعله بين أيدي أشخاص لا يجيدون اللغة الأجنبية، لكنهم استطاعوا أن "يقرأوا" الرسوم الطريفة التي تمثل القصة. وبدت قصة أحمد أبو دهمان محملة بسحر الصحراء وعطشها الأزلي.
عن الاندبندنت عربية










