TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فـي حضـرة الـتـّكـريــم

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

نشر في: 18 ديسمبر, 2025: 12:03 ص

لطفيّة الدليمي

هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب منّا) ليست محض حروف بل امتدادٌ طبيعي وضروري وحتمي لوجوده في العالم. هذا العام، في معرض العراق الدولي للكتاب في بغداد، عشتُ تلك اللحظة ولو عن بُعْد. شعرتُ أنّ اسمي كان أكثر من مجرد لوحة تحمل حروفاً منقوشة على صورة لي شكّلتها أناملُ المُبدع (ستّار كاووش)، كان نبضاً في قلب وطني العراق، امتداداً للكتابة، للحلم، وللوعي بأنّ الكلمة قادرة على البقاء رغم كل الرزايا.
سأتخلّى هنا طواعية، ولزمن محسوب، عن فلسفتي في الكتابة. سأنزع عنّي عقلنتي الطاغية إذ أراها تصدُّني عن قول ما أشاء بطريقة مباشرة ومن غير إلتواءات تحتملُ تعدّدية التأويل وكثرة القراءات. سأكتبُ بما يخبرني القلبُ من غير تمريره في مختبر التشريح الفلسفي الصارم.
أودُّ أولاً أن أشكر من جَعَلَ هذه اللحظة ممكنة، بدايةً بالأستاذ (فخري كريم)، رئيس مؤسسة دار المدى، الذي لم يكتفِ بتنظيم معرض بل صنع فضاءً للكتابة والقراءة، للحوار بين الإنسان ووطنه. في حضوره شعرتُ أنّ الكتابة ليست مجرّد فعل يمكثُ في حيّز الفردانية المنعزلة كما الفقاعة، بل هي فعل اجتماعي وفلسفي، صلةٌ بين الروح والواقع، بين الحلم والمجتمع، وسؤال دائم عن معنى وجودنا في العالم. لا يمكنني بالتأكيد أن أغفل الدكتورة (غادة العاملي)، المدير العام للمؤسسة، التي كان حضورها العاطفي والفكري في المعرض واضحاً في كل تفصيلة صغيرة. بروحها الحنونة وحرصها على أن تكون التجربة شخصية لكل كاتب وقارئ، شعرتُ بأنّ كلّ كلمة كتبتُها طوال سنوات طويلة لم تذهب هباءً، وأنّ الكتابة فعل فلسفي وعمليٌّ يسعى لإضاءة الطريق، لتأكيد وجود الإنسان وفكره في هذا العالم المتغير.
لطالما كانت الكتابة بالنسبة لي رحلة سرية، حياة موازية أعيشها بصمت، بعيداً عن الأضواء والإحتفاليات الرسمية. طوال سنوات طويلة، كنت أكتب في هدوء، أراقب العالم من خلال الكلمات، أصيغ الأحلام، وأحاورُ نفسي قبل أن أحاور الآخرين. لم يكن هدفي حينها شهرة أو اعترافاً رغم أنّهما هدفان نبيلان يمتلكان مشروعية المسعى. دافعي الأوحد كان إحساسي العميق بأنّ الكتابة فعل وجود، وسيلة لفهم نفسي وفهم العالم من حولي.
العملُ بصمت علّمني الصبر والتواضع، وجعلني أقدّرُ لحظة الإنفجار الإبداعي المتوهّجة. كلُّ كلمة تُكتبُ في الصفحة البيضاء (أضحت ألكترونية حاسوبية في العالم الرقمي الحالي) كانت بمثابة شعاع نور في عتمة الأيام، وكلُّ نصّ كان انعكاساً لرحلة داخلية مليئة بالتأمّل والأسئلة. لم أسعَ لأن يكون جهدي مرئياً، ولم أنتظر اعترافاً فورياً، لأنّ الكتابة نفسها كانت تكفي لتملأ روحي بالسعادة. الكتابة نمط من الإمتيازات التي تكافئ نفسها بنفسها كما هو الحال في فلسفة الكارما الخالدة.
اليوم، حين أرى نفسي في موضع التكريم، أشعرُ أنّ كل لحظة صمت عملت على تكوين هذا الوهج الداخلي، وأنّ سنوات العزلة الصامتة لم تذهب هباءً. تحوّلتْ إلى طاقة صافية تجعلني أستقبل التكريم بروح ممتنّة، وأدركُ أنّ الوفاء للكلمة، وللذات، وللوطن، أحياناً يحتاج إلى صمت طويل قبل أن يصبح صدىً يُسمع ويُرى.
سعيدةٌ انا بتكريم المدى. ليس هناك شعور أعمقُ من أن تُكرّم في وطنك. إنّه شعور يجمع بين الفرح الشخصي ووعي أكثر تجذّراً بالانتماء، شعورٌ بأنّ الكتابة ليست تعبيراً عن الذات حسبُ بل عن الذاكرة الجمعية، عن روح مجتمع يحاول أن يتواصل مع ذاته بعد سنوات من التحدّيات الجسام. في تلك اللحظة شعرتُ بأنّ الكتابة فعل مقاومة واحتفال معاً، مقاومةٌ للنسيان واحتفاءٌ بالحياة.
في المعرض، بين الكتب والوجوه التي طالعتُها عبر التسجيلات الفيديوية، أدركتُ أنّ كل تكريم يحمل أكثر من مجرد احتفاء رسمي. إنّه مساءلة فلسفية وروحيّة عن القيمة، عن الزمن، عن الدور الذي تلعبه الكلمةُ في حياة الإنسان. كل مسؤول، كل موظف، وكلّ قارئ أراه وقد استحال جزءاً من هذا السؤال الجميل: ما معنى أن يُحتفى بالكلمة؟ وما قيمة أن ترى نفسك في وطنك وقد تمّ الاعترافُ بجميل صنائعك؟
جعلني المعرضُ أفكّرُ في الكتابة كحركة زمنية متطاولة وممتدّة: محاولةٌ للإمساك باللحظة، لفهم العالم، لتساؤل دائم عن الإنسان والوطن. هنا، في بغداد التي أعشق والتي أعيشها عن بُعْدٍ كل لحظة، شعرتُ بأنّ الكتابة فعل جماعي، رابطة بين الحاضر والماضي والمستقبل، بين التجربة الشخصية والذاكرة الجماعية. هذا الشعور بالإنتماء، بالإعتراف، بالإحتفاء، منحني طاقة جديدة للإستمرار، وجعلني أرى في كل كلمة كتبها الإنسان انعكاساً لرغبته الأزلية في الحياة والمعرفة والجمال. إنها لحظة امتنان لكلّ من أسهم في هذا المعرض، لكلّ من جعل الكتابة والكتاب حاضراً في الواقع، لكلّ من جعل الكلمات تتجاوز العوائق المادية القسرية لتصبح جسراً بين الإنسان ووطنه، بين الحلم والواقع، بين النفس والعالم. كل ابتسامة، كل تقدير، كل اهتمام، كان شعاعاً من الضوء، لحظةً من الصفاء الفلسفي الذي يجعل الإنسان يتأمّلُ في قيمة الوجود ذاته، وفي قيمة وجوده هو منظوراً إليه كجزء من الوجود الإنساني.
أرى أنّ المعرض لم يكن احتفاء بمائة نون عراقية وانا بينهن وحسب. كان تأكيداً على أنّ الانجاز و الكلمة قادرة على إعادة الروح المعطوبة (أو التي يرادُ إعطابُها إعطاباً مزمناً) في الإنسان، على إحياء معنى الإنتماء، وعلى أن تجعل كلّ تكريم، مهما كان شخصيّاً، علامة على قدرة الإنسان على التواصل مع ذاته ومع الآخرين عبر الزمن.
شكراً لمعرض العراق الدولي للكتاب في نسخته السادسة لعام 2025، ولكلّ من جعل هذه اللحظة ممكنة. لقد منحتموني شعوراً لن أنساه أبداً: شعوراً بأنّني في وطني، أرى ثمرة ما زرعتُهُ طيلة حياتي الإبداعية حبّاً واعترافاً بجميل العمل في منطقة المثابات الفكرية الراقية التي نريدها أن تشيع في وطننا الذي تقهقر كثيراً عمّا كان معقوداً على إنطلاقته الحداثية الأولى المبشّرة بمستقبل مشرق.
يكفي المدى وعامليها أنّها تساهم بشرف وإخلاص في بثّ روح الحياة في تلك الإنطلاقة الأولى عبوراً لجسر التخلّف نحو عالم تجاوزنا كثيراً في مبتدعاته العلمية والتقنية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram