بغداد/ المدى
مر العراق خلال السنوات الأخيرة بواحدة من أقسى أزماته المائية، حيث تراجعت مناسيب نهري دجلة والفرات إلى مستويات غير مسبوقة، في بلد يصنف ضمن الدول الخمس الأكثر هشاشة تجاه تغير المناخ ونقص الموارد المائية، مع تفاقم موجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة وتقدم التصحر في نحو ثلثي أراضيه.
ومع «الارتفاع النسبي» في مناسيب نهري دجلة والفرات في الوقت الحالي، حدد مرصد العراق الأخضر أربعة أسباب رئيسية له، موضحا أن انخفاض درجات الحرارة في الأسابيع الأخيرة وقلة استهلاك المياه شكلا عاملا مباشرا لتقليل السحوبات على النهرين، إلى جانب الأمطار التي هطلت على مناطق واسعة من البلاد ورفعت جزءا من الإيرادات المائية. وأشار المرصد إلى أن السيول التي ضربت بعض المحافظات، رغم ما خلفته من أضرار موضعية، أسهمت في تغذية مجرى النهرين وتخزين جزء من تلك الكميات، فضلا عن الفيضانات في تركيا التي اضطرت أنقرة على أثرها إلى زيادة إطلاقات المياه عبر نهر دجلة باتجاه العراق، وهو ما انعكس في تحسن محدود في مستويات المياه.
وشدد المرصد على أن المسؤولية الأكبر الآن تقع على عاتق وزارة الموارد المائية، داعيا إياها إلى استثمار هذه الفرصة «المناخية» المؤقتة من خلال تعظيم الخزن في السدود والنواظم، وعدم السماح بعودة الهدر التقليدي في الري والاستخدام الزراعي، تمهيدا لتأمين حد أدنى من الخزين المائي يكفي لعبور فصل الصيف المقبل الذي يرجح أن يكون أكثر قسوة في ظل استمرار التغير المناخي. ولفت إلى أن العراق ما زال بحاجة إلى أكثر من 100 مليار متر مكعب من المياه لإعادة الخزين المائي إلى وضعه الطبيعي، وهو رقم يعكس ضخامة الفجوة بين ما حصل عليه البلد من أمطار وسيول خلال الموجة الأخيرة، وما يحتاجه فعليا لتجاوز حالة «الطوارئ المائية» المستمرة منذ سنوات.
وبحسب المرصد، فإن تحسن المناسيب الحالي لا يلغي حقيقة أن دول المنبع، وفي مقدمتها تركيا، ما زالت تمتنع عمليا عن الدخول في تفاهمات حقيقية وشفافة تضمن إطلاقات مائية مستقرة باتجاه العراق، رغم تعدد جولات الحوار والاتفاقات المبدئية خلال العامين الماضيين. فبرغم توقيع اتفاقات وأطر للتعاون في مجال المياه بين بغداد وأنقرة، فإن الشكاوى الرسمية العراقية تكررت من عدم التزام الجانب التركي بمستويات الإطلاق المتفق عليها، في وقت يؤكد فيه مسؤولون عراقيون أن البلاد تتسلم حاليا أقل من ثلث حصتها التاريخية من مياه النهرين.
ويحذر خبراء المياه والبيئة من أن أي تراخ في إدارة هذا «الهامش الإضافي» من المياه، الناجم عن الأمطار والسيول والفيضانات الأخيرة، قد يعيد العراق سريعا إلى مشهد الجفاف الحاد، مع ما يعنيه ذلك من تهديد مباشر للأمن الغذائي، وهجرة قسرية لمزيد من سكان الأرياف، وتزايد الضغط على المدن والبنى التحتية. ففي ظل ارتفاع نسبة التلوث في معظم المجاري المائية، وحملات ملاحقة التجاوزات وسحب المياه غير القانونية، تبدو الحاجة ملحة لخطط متكاملة تشمل تحديث شبكات الري، وتشجيع التحول إلى الزراعة قليلة الاستهلاك للمياه، والتوسع في مشاريع إعادة استخدام المياه المعالجة لتخفيف الضغط عن دجلة والفرات. وبين موجة مطر عابرة واتفاقات مائية متعثرة وخزين استراتيجي مهدد بالتآكل، يبدو أن الاختبار الحقيقي لملف المياه في العراق لم يعد محصورا بما ترسله دول المنبع من إطلاقات، بل بما تستطيع مؤسسات الدولة أن تفعله بكل قطرة تصل، من لحظة هطولها على الجبال والسهول، إلى أن تستقر في سد أو خزان، أو تضيع في هدر قد يكلف البلاد صيفا جديدا من العطش.










