TOP

جريدة المدى > خاص بالمدى > مستشفى الرشاد.. من غرف العلاج إلى مراكز إيواء!

مستشفى الرشاد.. من غرف العلاج إلى مراكز إيواء!

1450 مريضاً تحت إشراف 11 طبيباً فقط!

نشر في: 21 ديسمبر, 2025: 12:03 ص

 بغداد / تبارك عبد المجيد

أسرة متهالكة، تشققات تمتد في جدران الردهات، ومرضى يفترشون الأرض. مشهد يعكس قسوة الإهمال أكثر مما يعكس مؤسسة علاجية. هكذا أعادت صور متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي فتح ملف مستشفى الرشاد للأمراض النفسية، بعد أن وصفت تلك المشاهد بـ "الكارثية"، وكشفت واقعاً أعمق من مجرد أزمة عابرة، واقعاً تتداخل فيه بنايات تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، ونقص حاد في الكوادر الطبية، وغياب شبه تام للبرامج العلاجية والتأهيلية، وسط اتهامات مباشرة بتقصير حكومي طال أحد أكثر القطاعات الصحية حساسية وهشاشة.
يكشف مصدر خاص من داخل مستشفى الرشاد للأمراض النفسية، فضل عدم ذكر اسمه، عن أزمة عميقة ومتراكمة يعاني منها المستشفى منذ سنوات، مشيراً إلى أن الخلل لا يقتصر على جانب واحد، بل يشمل الكوادر الطبية، البنى التحتية، والبرامج العلاجية، مما جعل المستشفى عاجزاً عن أداء دوره العلاجي الحقيقي.
وبحسب ما أفاد به المصدر لـ "المدى"، فإن عدد الأطباء العاملين في المستشفى لا يتجاوز عشرة أطباء فقط، وهو رقم وصفه بـ "القليل جداً" قياساً بعدد المرضى الراقدين، موضحاً أن كل طبيب يلزم بمتابعة ردهتين أو أكثر، في حين تضم كل ردهة ما يزيد على 70 مريضاً. ويضيف أن هذا الضغط الكبير ينعكس مباشرة على مستوى المتابعة الطبية، لافتاً إلى أن اختصاص الطب النفسي (Psychiatry) يعد من الاختصاصات الشحيحة في العراق، الأمر الذي دفع وزارة الصحة، بحسب قوله، إلى منح امتيازات للأطباء الذين يقبلون عليه بهدف زيادة عدد المختصين، إلا أن هذه الإجراءات ما تزال غير كافية لمعالجة النقص الحاد.
ويمضي بالقول إن الأزمة لا تتوقف عند الكادر الطبي، إذ يعاني المستشفى من بنى تحتية قديمة ومتهالكة، فضلاً عن ضعف واضح في الخدمات الفندقية والرعائية المقدمة للمرضى. ويوضح أن طبيعة الحالات النفسية تتطلب رعاية خاصة، حيث يفترض وجود مرافق واحد لكل عشرة مرضى، إلا أن هذا الأمر "شبه مستحيل" حالياً، خصوصاً في ظل غياب المرافقين عن أغلب المرضى.
وفي هذا السياق، يحمل المصدر وزارة الصحة مسؤولية تدهور الأوضاع، مؤكداً أن المستشفى، منذ إنشائه وحتى اليوم، لم يشهد تغييراً جوهرياً في واقعه الخدمي أو العلاجي. ورغم ذلك، يشير إلى أن العمل جارٍ حالياً على إنشاء مركزين جديدين يضمان عدداً من الردهات، إلا أنهما ما يزالان في طور البناء، دون أن ينعكس ذلك حتى الآن على واقع المرضى.
وعلى صعيد العلاج، يلفت إلى أن أحد أخطر التحديات يتمثل في غياب البرامج العلاجية التي يتلقاها الأطباء خلال دراستهم وتدريبهم، موضحاً أن المستشفى "لا يمتلك خطة علاجية واضحة"، وأن العلاج يقتصر في الغالب على الأدوية من حبوب وحقن، مع محاولات محدودة وغير منتظمة للتأهيل النفسي. ويضيف أن هذه البرامج تقتصر حالياً على المرضى الذين تعد حالتهم مستقرة فقط، وبعض من يمتلكون مواهب معينة.
ويشير المصدر إلى أن المستشفى يضم عدداً كبيراً من المواهب بين المرضى، كالعزف الموسيقي والفنون والرسم، فضلاً عن وجود مرافق مثل قاعة بناء الأجسام، ملاعب كرة القدم، وورش الخياطة، إلا أن معظم هذه الأنشطة "مهملة في الوقت الراهن". ويستذكر أن المستشفى كان يعتمد في السابق برامج علاج وتأهيل مرحلية، تشرك حتى المرضى غير المستقرين ضمن مسار علاجي منظم، وهو ما اختفى تماماً اليوم، ليبقى المرضى محصورين في دائرة العلاج الدوائي والحقن فقط.
وبشأن المتابعة الطبية، يوضح المصدر أن تقييم الحالات يعتمد بدرجة كبيرة على تقييم المرضى أنفسهم، وتحديداً من قبل مسؤول الردهة ورديفه، في حين يزور الطبيب المنتظم الردهات مرة واحدة أو مرتين أسبوعياً لمتابعة الحالات، وهو ما يراه غير كافٍ بالنظر إلى حجم المستشفى وعدد المرضى.
وعن بيئة المستشفى، يصف المصدر مستشفى الرشاد بأنه مساحة شاسعة أشبه بمدينة صغيرة، تضم شارعاً رئيسياً تتفرع منه شوارع داخلية، مع فصل بين أقسام النساء والرجال، إضافة إلى مساحات خضراء وبحيرة أسماك خاصة بالمستشفى. ويرى أن هذه البيئة، لو أحسن استثمارها، كان من الممكن أن تسهم في دعم العلاج النفسي وإعادة التأهيل، ومساعدة المرضى على التعافي والاندماج المجتمعي، بدلاً من بقائهم لفترات طويلة داخل الردهات.
ويضيف المصدر بالإشارة إلى أن التحدي الأكبر يتمثل في طبيعة المرضى أنفسهم، إذ إن الغالبية منهم مشردون أو تحيلهم الشرطة إلى المستشفى، وليسوا حالات تحضر برفقة عائلاتها، مما يجعل خروجهم معقداً ولا يتم إلا بقرار قضائي. وبحسب قوله، فإن الكثير من المرضى يبقون داخل المستشفى لعدم وجود مكان يؤويهم أو جهة ترعاهم، مما حول المؤسسة تدريجياً إلى ما يشبه مكان إقامة دائم، أكثر من كونها مركزاً علاجياً.
ويؤكد أن المستشفى بحاجة ماسة إلى زيادة أعداد الأطباء والعاملين، وتوفير برامج تأهيل حقيقية وشاملة، محذراً من أن استمرار الوضع الحالي يعني بقاء المرضى في حلقة مغلقة من العزل والعلاج الدوائي، دون أفق فعلي للتعافي أو العودة إلى المجتمع.
وفي لقاء متلفز تابعته "المدى"، أوضح مدير مستشفى الرشاد، د. فراس الكاظمي، أن مساحة المستشفى تبلغ نحو 100 دونم، ويضم ما يقارب 25 ردهة، مبيناً أن عدد الأطباء من ذوي الاختصاص في الطب النفسي يبلغ 11 طبيباً فقط، من ضمنهم مدير المستشفى نفسه. وأشار الكاظمي، خلال اللقاء ذاته، إلى أن المستشفى يضم أيضاً أطباء تدرج يتابعون بعض الحالات، إضافة إلى أطباء دراسات عليا، فضلاً عن أطباء يشرفون على الحالات الباطنية، إلا أنه أكد، رغم ذلك، أن العدد الإجمالي للكادر الطبي يبقى قليلاً جداً قياساً بعدد المرضى الراقدين وطبيعة الرعاية المطلوبة.
وبين أن الحاجة الفعلية، وفق المعايير الطبية، تتطلب وجود أكثر من 100 طبيب اختصاص و100 تدرج.
ويؤكد طبيب الاختصاص النفسي صفاء راشد أن واقع مستشفى الرشاد يعكس إهمالاً مزمناً للصحة النفسية في العراق، مشيراً إلى أن البنية التحتية للمستشفى تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، إذ إن معظم الغرف والردهات "قديمة جداً ولم تخضع لتأهيل حقيقي يتناسب مع طبيعة المرضى واحتياجاتهم النفسية والإنسانية".
ويقول راشد لـ "المدى"، إن المريض النفسي لا يحتاج إلى الدواء فقط، بل إلى بيئة علاجية آمنة ومحفزة، تتضمن مساحات نظيفة، خصوصية، برامج تأهيل نفسي واجتماعي، وكادراً كافياً قادراً على المتابعة اليومية، لافتاً إلى أن الاكتفاء بالعلاج الدوائي داخل أبنية متهالكة "لا يؤدي إلى الشفاء، بل يكرس العزلة ويطيل أمد المرض".
ويضيف أن الإهمال لا يقتصر على مستشفى الرشاد وحده، بل يعكس نظرة عامة للصحة النفسية بوصفها ملفاً ثانوياً، مبيناً أن الحكومة لم تمنح هذا القطاع الاهتمام الذي يستحقه، سواء من حيث التخصيصات المالية أو التخطيط طويل الأمد أو دعم الكوادر المتخصصة. وبحسب راشد، فإن مرضى الاضطرابات النفسية هم من أكثر الفئات هشاشة في المجتمع، ويحتاجون إلى رعاية مضاعفة، لا إلى التهميش أو الإهمال، محذراً من أن غياب البرامج العلاجية والتأهيلية الحقيقية يحول المستشفيات النفسية إلى أماكن إيواء قسرية، بدلاً من كونها مؤسسات علاج وإعادة دمج مجتمعي.
ويتابع بالقول إن إصلاح هذا الواقع يتطلب إرادة حكومية واضحة، تبدأ بإعادة تأهيل الأبنية القديمة، وزيادة أعداد الأطباء والكوادر التمريضية، وإطلاق برامج علاج وتأهيل حديثة، تضع كرامة المريض النفسي وحقه في العلاج المتكامل في صلب السياسات الصحية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

مقالات ذات صلة

الجلسة الأولى للبرلمان: الرئاسة والنائب الأول في قلب الخلاف

الجلسة الأولى للبرلمان: الرئاسة والنائب الأول في قلب الخلاف

بغداد/ تميم الحسن تتجه البلاد – على الأرجح – نحو جلسة برلمانية في نهاية الشهر الحالي من دون حسم أيٍّ من الرئاسات الثلاث، في مشهد يعيد إلى الأذهان انسداد عام 2022 حين دخلت العملية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram