سعد سلوم
في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية والسيطرة على السلطة، ويعكس العراق تجربة انتقالية عنيفة مع هشاشة الدولة، تتأرجح سوريا بين استمرار الصراع وضعف المؤسسات، ما يضع الأقليات في مواجهة يومية مع مخاطر التهجير والفوضى.
تتباين استراتيجيات الأقليات السورية في هذا السياق: يواجه العلويون إرثا ثقيلا مرتبطا بالسلطة السابقة، المسيحيون يحاولون البقاء عبر شبكات حماية وتحالفات مؤقتة، والدروز يستندون إلى روابط إقليمية تمنع السيطرة الكاملة عليهم، بينما تعتمد الفصائل المسلحة وسلطة الجولاني (أحمد الشرع) على القوة والرمزية لتأمين وجودها. تعكس هذه التجارب هشاشة إدارة التنوع في سوريا مقارنة بنماذج أكثر استقرارا مثل روج آفا وكردستان العراق، لكنها في الوقت نفسه تظهر إمكانات محدودة لبناء ثقة محلية واستراتيجيات مشاركة فعلية.
تعيش الأقليات مثل المسيحيين والعلويين والدروز وبعض الجماعات الكردية والآشورية في هشاشة مستمرة نتيجة النزاع وغياب الدولة الفاعلة، حيث يقوم تضامنها غالبا على الخوف المشترك من الجماعات المسلحة والتهجير، فيأخذ شكل تعاون أمني مؤقت لحماية الأماكن الدينية والمجتمعية، وليس على مشاريع سياسية أو ثقافية طويلة الأمد. ففي مناطق مثل إدلب وطرطوس واللاذقية، يظهر هذا التعاون العابر للطوائف كاستجابة عاجلة للتهديدات المباشرة، بخلاف العراق ولبنان حيث يمكن للأقليات بناء تحالفات سياسية مستدامة لضمان مصالحها.
على خلفية هشاشة الدولة السورية واعتماد الأقليات على التضامن القائم على الخوف والحماية الذاتية، تظهر تجربة روج آفا كنموذج مختلف لإدارة التنوع في ظل النزاع. منذ تأسيسها، اعتمدت روج آفا على نموذج إداري متعدد المكونات قائم على الديمقراطية التشاركية، يتيح للمسيحيين والعرب والتركمان والأشوريين والإيزيديين المشاركة في الحكم المحلي وصنع القرار. كما وضعت آليات لحماية الحقوق الثقافية والدينية واللغوية لكل مكون، مما منحها قدرة على تخفيف الاحتقان الاجتماعي وبناء قاعدة شرعية محلية واسعة، حتى في المناطق المختلطة عرقياً ودينياً. بالمقابل، تعتمد سلطة الجولاني على القوة العسكرية والسيطرة الأمنية المباشرة، ولا تمتلك أي آليات مؤسسية لإدارة التنوع أو إشراك الأقليات، فأسلوبها القائم على الانصياع بالقوة يجعل أي محاولات للتعايش أو حماية حقوق الأقليات هشة ومؤقتة، ويولد خوفاً ورفضاً داخلياً.
عند مقارنة تجربة روج آفا بتجربة كردستان العراق، يظهر اختلاف السياق والنتائج. فبينما نجحت كردستان عبر حكم مؤسسي واستراتيجية طويلة الأمد وبناء تحالفات مع الأقليات داخل الإقليم، حققت روج آفا نجاحًا محدودا رغم اعتمادها على نموذج تشاركي. تواجه روج آفا تحديات إضافية تمثلها الدولة السورية، وتداخل النفوذ الدولي، وتهديدات تركيا، وضعف الموارد، واعتمادها على الفصائل المحلية، ما يحد من قدرتها على تكرار تجربة كردستان بالكامل. ومع ذلك، تمكنت من بناء الثقة بين المكونات المحلية، مما منحها فرصة محدودة لكنها حقيقية لإرساء استقرار نسبي وإدارة التنوع.
ويظل نجاح روج آفا مستقبليا مرتبطا بتوسيع المشاركة المؤسساتية، وحماية التنوع الثقافي والديني، والحفاظ على الأمن المحلي. مقارنة بسلطة الشرع القائمة على القوة، تمتلك روج آفا أساسًا أقوى للاستمرارية لأنه قائم على المشاركة والشرعية الشعبية، وليس على الخوف والسيطرة بالقوة. وإذا تمكنت من بناء مؤسسات مستقرة والتنسيق مع الفصائل الأخرى وإدارة الضغوط الخارجية، فقد تحقق جزءا من استقرار كردستان العراق، لا سيما في إدارة التنوع الداخلي.
تشكل حالة الدروز مثالا خاصا، إذ تمنحهم روابطهم الإقليمية مع لبنان وإسرائيل قدرة على مقاومة السيطرة المباشرة لأي فصيل مسلح، بما في ذلك "الشرع". وأي محاولة للتدخل في مجتمعهم ستكون محدودة ومؤقتة، مع احتمال تنسيق داخلي مع فصائل محلية للحماية، لكنها لن تؤدي إلى ظهور كيان سياسي مستقل في المستقبل القريب.
ومن هذا المنظور، يظهر أن التضامن بين الأقليات في سوريا غالبا قائم على الخوف والضرورة العملية، ويعكس واقعا مؤقتا تتحكم فيه التهديدات الأمنية المباشرة، بعكس العراق ولبنان حيث يرتبط التضامن بمشاريع سياسية وثقافية أوسع وأكثر استدامة.
تبرز إشكالية العلويين كنموذج يعكس تعقيد العلاقة بين الأقليات والسلطة في سوريا. بعد أكثر من عقد من النزاع، لم يكن العلويون كتلة موحدة موالية للنظام، بل كثيرون منهم وقعوا رهائن لبنية سلطوية مغلقة استثمرت في خوفهم كما استثمرت في خوف الآخرين. ومع ذلك، يترسخ تصور شعبي مفاده أن "العلويين حكموا سوريا عبر الأسد"، بينما بقي النظام يسعى لحماية مصالحه الخاصة، وكانت تكلفة بقائه ثقيلة على جميع السوريين، بما في ذلك العلويون أنفسهم الذين فقدوا عشرات الآلاف من أبنائهم، وعانت مناطقهم من تهميش اقتصادي واجتماعي طويل الأمد.
تماما كما وقع العلويون رهائن لبنية سلطوية مغلقة استثمرت في خوفهم، واجهت مناطق مثل تكريت وعموم سنة العراق تجربة مماثلة، حيث أصبحوا مرتبطين سياسيا بعلاقات القوة خلال حكم صدام حسين، ما أنتج وصما جماعيا وتهميشا طويل الأمد، مع الفارق أن الخلفيات التاريخية والبيئة السياسية لكل دولة منحت لكل تجربة أبعادها الخاصة.
وتتجاوز خطورة هذه الإشكالية الحرب نفسها، إذ يظل العلويون معرضين للوصم والتخوين كامتداد للنظام، ما يخلق مخاطر استباحة أمنية واجتماعية في سياق فوضوي يغيب فيه منطق الدولة والقانون. والخروج من هذه الحلقة لا يمكن أن يتم عبر إنكار الماضي أو تبرئة جماعية، بل عبر تفكيك العلاقة بين الطائفة والنظام سياسيًا وأخلاقيا، والانتقال إلى منطق الدولة.
من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى إشكالية العلويين ليس كأزمة طائفة، بل كاختبار لقدرة سوريا على تجاوز منطق الحرب وبناء عقد اجتماعي جديد، يفصل بين الجماعات والنظم، وبين الهوية والمسؤولية، ويضع حدا لإرث الخوف الذي غذّى الاستبداد لعقود، وهو شرط أساسي لأي مشروع للتضامن وإدارة التنوع بين الأقليات، كما يظهر من تجارب روج آفا والأقليات الأخرى في البلاد.
في سياق إدارة الأقليات في سوريا، تبرز تجربة الشرع مع الجالية اليهودية مثالاً على البراغماتية للتعامل مع التنوع الديني والثقافي. فقد لعب اليهود دورا تاريخيا في النسيج الاجتماعي السوري، خصوصًا في حلب ودمشق وحمص، قبل أن تؤدي أحداث 1948 وتصاعد التوترات الإقليمية إلى هجرة معظمهم واغلاق معابدهم ومدارسهم. وعلى الرغم من أن النشاط اليهودي ظل شبه منعدم لعقود، شهد حي الجميلية بحلب مؤخرا افتتاح أول معبد ومدرسة يهودية منذ عقود، بمشاركة حاخامين من إسرائيل وتحت حراسة أمنية مشددة، في خطوة رمزية تشير إلى قدرة الفصائل على إدارة الأقليات ضمن إطار محدود وآمن.
سياسيًا، في واشنطن التقى الشرع بالحاخام يوسف حمرا وممثلين عن مؤسسة التراث اليهودي في تشرين الثاني 2025، ما يعكس استراتيجية مزدوجة: إعادة الاعتبار للتراث اليهودي داخليا، وتوجيه رسائل دولية عن ضبط النفوذ وقدرة الفصيل على إدارة مناطقه. تحليليا، تجمع هذه التحركات بين الرمزية، السياسة الدولية، والحسابات الأمنية المحلية، لكنها تبقى هشّة ومؤقتة مقارنة بنموذج روج آفا أو كردستان العراق، حيث تمنح المؤسسات القائمة على المشاركة استمرارية أكبر.
أما المسيحيون، فيعيشون ضمن طيف واسع من الطوائف في المدن الكبرى والقرى المختلطة، ويواجهون هشاشة مماثلة نتيجة النزاع وانهيار الدولة المركزية. يعتمدون اليوم على شبكات حماية محلية وتحالفات مؤقتة للحفاظ على وجودهم وأماكن عبادتهم، وسط تهديدات مزدوجة: هجمات مباشرة على الكنائس أو الأفراد، وضغوط اقتصادية وثقافية تهدد استمرارية المجتمع، ويزيد التباين الطائفي الداخلي تعقيدًا في إدارة مصالحهم ضمن سلطة محلية أو فصيل مسلح. تاريخيا، كان المسيحيون يراهنون على حماية الدولة والدعم الدولي، لكن بعد انهيار الدولة أصبح هذا الرهان هشا، إذ توفر سلطة الشرع حماية مؤقتة عبر القوة العسكرية، لكنها تفتقر إلى مؤسسات مستقلة وضمان الحقوق الثقافية والدينية.
وفي هذا السياق، تبدو أي مطالب لمحافظة أو حكم ذاتي على نمط مطالب مسيحيي سهل نينوى وفق المادة 125 من دستور العراق غير واقعية اليوم، بسبب غياب الأساس الدستوري، وتوزع المسيحيين الجغرافي، وحرص الشرع على وحدة الدولة، ما يجعل تعزيز التمثيل المحلي وحماية الحقوق الثقافية والدينية أكثر جدوى. لذلك، تتجه المجتمعات المسيحية السورية نحو استراتيجيات بقاء عملية تشمل شبكات حماية محلية، تنسيقا مع الفصائل المسيطرة، توثيق الانتهاكات، وإعادة تعريف الهوية على أساس المواطنة والحقوق المشتركة بدل الانتماء الطائفي.
يبقى مستقبل مسيحيي سوريا مرتبطا بالقدرة على إدارة تحالفات متعددة، حماية أنفسهم محليا ودوليا، وبناء مؤسسات تشاركية قوية، لأن أي حماية قائمة على القوة فقط تبقى قصيرة الأمد وهشة. في المقابل، توفر التجارب المستدامة، كما في روج آفا وكردستان العراق، نموذجا لإدارة الأقليات عبر المشاركة المؤسساتية والحقوقية، ما يمنح استقرارا نسبيا وفرصة أكبر لبقاء المجتمع دون الانكفاء على الانتماء الطائفي أو الهجرة القسرية.
إن تجربة الأقليات في سوريا تكشف بوضوح هشاشة الدولة وآثار الصراع المستمر على التنوع الاجتماعي والديني. من العلويين الذين تحملوا عبء نظام لم يكن لهم بالكامل، إلى المسيحيين الذين يسعون للبقاء عبر شبكات حماية وتحالفات مؤقتة، وصولا إلى الدروز واليهود الذين تعتمد استراتيجياتهم على روابط تاريخية وإقليمية، يظهر أن التضامن بين الأقليات غالبا قائم على الخوف والضرورة العملية، وليس على مؤسسات قوية أو رؤية استراتيجية طويلة الأمد.
ومع ذلك، تقدم نماذج مثل روج آفا وكردستان العراق درسا مهما: الإدارة القائمة على المشاركة المؤسساتية وحماية الحقوق الثقافية والدينية توفر استقرارا نسبيا وفرصة لبناء الثقة بين المكونات المختلفة. بالمقابل، تعتمد سلطة الجولاني على القوة والرمزية، ما يجعل أي نجاح هشا ومؤقتا.









