علاء المفرجي
تدور أحداث رواية (في أمريكا) الصادرة عن دار المدى بترجمة د. علي عبد الأمير صالح، حول مجموعة من المهاجرين البولنديين الذين يهاجرون إلى الولايات المتحدة في عام 1876. تتصدر المجموعة الممثلة هيلينا مودييسكا، التي تحمل طموحات كبيرة لتحقيق الذات والنجاح المسرحي في الوطن الجديد. ترافقها مجموعة من الأصدقاء والمؤلفين الشباب، بمن فيهم الصحافي هينريك سينكيويتش.
تمثل الرواية مشروعاً أدبياً وثقافياً مهماً؛ إذ تُقدم رؤية مركّبة لحياة المهاجرين وطموحاتهم، وتطرح أسئلة فلسفية عميقة حول الذات والمجتمع والهوية. إنها ليست فقط سرداً تاريخياً، بل تأمّل في التجربة الإنسانية عبر الزمان والمكان.
الرواية تصور تجربة الهجرة والرغبة في إعادة اكتشاف الذات في سياق أمريكا باعتبارها أرض الفرص الممكنة رؤية شائعة لدى كثير من المهاجرين في تلك الحقبة. من خلال حياة الشخصيات وتفاعلاتها، يستكشف الكتاب: طموح الفرد نحو التغيير التحول؛
التوتر بين الهوية الأصلية والاندماج في المجتمع الأمريكي؛ الصراع بين فشل الجماعة ونجاح الفرد (كما ترى هيلينا في نهاية الرواية). وهكذا، تتجاوز الرواية مجرد سرد تاريخي لتصبح تأملاً في الطبيعة الإنسانية والقدر والتحول الثقافي.
يتميز أسلوب سونتاج في هذه الرواية بالسلاسة والتدفق اللغوي، مع اهتمام واضح في العمق النفسي للشخصيات. على الرغم من أن الحبكة لا تتسم بالحركة البوليسية، إلا أن النص يترك للقارئ مساحة للتفكير في الدوافع الإنسانية والأبعاد الثقافية للهجرة والتحول.
أشاد بعض النقاد بهذا الأسلوب، بينما رأى آخرون أن الرواية تظل أقل قوة من أعمالها النقدية الأخرى، لكن وجود أفكار نقدية وإحالات ثقافية خفية في النص يعكس اهتمام سونتاج بـ التحليل الثقافي والنفسي في جميع أعمالها.
تُظهر الرواية كيف تؤثر الهجرة على الهوية الفردية، وكيف يحاول المهاجرون التوفيق بين جذورهم القديمة وطموحاتهم الجديدة في المجتمع الأمريكي.
بينما يفشل البعض في تحقيق تطلعاته، تتمكن هيلينا مودييسكا من تحقيق النجاح في الولايات المتحدة، مما يعكس وجهات نظر مختلفة حول تحقيق الذات في عالم معقد.
تعكس سونتاج في الرواية التوترات بين الأسطورة الأمريكية (الأحلام والفرص) والواقع الصعب الذي يواجه الكثير من المهاجرين. وبالنظر إلى إنتاجها، فإن في أمريكا تأتي في مرحلة ناضجة من مسيرتها الأدبية، بعد أن أثبتت نفسها كناقدة وثيقة الصلة بالثقافة والفكر الأمريكي والعالمي. وهذا يجعل الرواية تتسم بعناصر فكرية وثقافية واضحة وليست مجرد سرد قصصي بحت.
في أعمالها الأخرى اهتمّت سونتاج بتحليل الصور، الثقافة المعاصرة، والسياسات، مما منح كتاب في أمريكا بعداً ثقافياً واسعاً يتجاوز الحدود التقليدية للرواية التاريخية أو السرديّة.
تستكشف سونتاج في الرواية فكرة "أمريكا" ليس فقط كأرض فعلية، بل كـ أسطورة ثقافية تحمل آمالاً وتوقعات كبيرة، وأحياناً خيبات أمل مدفوعة بالواقع، فالرواية تناقش كيف أن الهجرة والتفاعل مع بيئة جديدة، مثل المسرح الأمريكي، يمكن أن تقود إلى تحولات جذريّة في الشخصية أحياناً نحو النجاح، وأحياناً نحو التجريد من الجذور الأصلية. التحول من حلم مجتمع مثالي إلى نجاح فردي على المسرح يشكل محوراً للنظر في العلاقات بين العمل الجماعي والفردانية، فالمسرح في الرواية ليس مجرد فن؛ بل هو محكّ لفهم الذات أمام الجماهير، حيث يصبح الأداء جزءاً من بناء الشخصية وتأكيد وجودها في العالم.
أهمية الرواية، تجد صداها اليوم في أمريكا ليست كمجرد قصة تاريخية عن مهاجرين في القرن التاسع عشر، بل هي منصة تأمل في معنى الانتماء، والهوية، والبحث عن الذات في عالم متعدد الثقافات والهويات الحديثة موضوعات تظل حيوية حتى في القرن الواحد والعشرين مع زيادة الهجرة والتحولات الاجتماعية.
رواية سونتاج (في أمريكا) عن الهجرة واكتشاف الذات

نشر في: 22 ديسمبر, 2025: 12:02 ص








