بغداد/ المدى
لم يعد التصحّر في العراق ظاهرة بيئية معزولة أو أرقامًا جامدة في تقارير رسمية، بل تحوّل إلى أزمة بنيوية تمسّ جوهر الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
فبين انحسار المياه، وتدهور التربة، وتراجع المساحات المزروعة، تتكشّف ملامح مشهد مقلق تُعاد فيه صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض على نحو قاسٍ.
العراق، الذي كان يُعرَف تاريخيًا بسلة غذاء وادي الرافدين، يواجه اليوم اختبارًا مصيريًا مع اتساع رقعة التصحر وتسارع آثار التغير المناخي، في ظل سياسات مائية إقليمية ضاغطة وإدارة داخلية تعاني قصورًا مزمنًا، ما يجعل خطر الجفاف ليس تهديدًا مستقبليًا، بل واقعًا يوميًا يفرض نفسه على الزراعة والبيئة والمجتمع معًا.
إذ كشف الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط، في تقريره الصادر أخيراً، عن أن المساحات المهددة بالتصحر بلغت 96.5 مليون دونم (الدونم = 2500 متر مربع)، فيما وصل إجمالي الأراضي المتصحرة إلى 40.4 مليون دونم، ما يعكس زيادة ملحوظة مقارنة بعام 2021.
وفي الوقت نفسه، أورد التقرير أن المساحة المزروعة الكلية في العراق خلال عام 2024 بلغت 11.9 مليون دونم فقط، توزعت بين الأراضي الديمية (البعلية) والمروية وتلك التي تعتمد على مياه الأنهار، والتي انخفضت إلى نحو 1.5 مليون دونم، في مؤشر مباشر على تفاقم الأزمة المائية.
هذه الأرقام جاءت نتاج تراكم سياسات مائية إقليمية ومحلية، وتغيرات مناخية متسارعة، وممارسات زراعية غير مستدامة أدّت مع الوقت إلى تملّح وتدهور واسع في التربة.
من جانبه، يشير الخبير الزراعي شاكر الدليمي، إلى ضرورة التوقف عند مجموعة عوامل متشابكة حول ملف التصحر، أولها السياسات المائية لدول المنبع، حيث يعتمد العراق بشكل شبه كامل على نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من تركيا، وأنهر صغيرة أخرى تنبع من إيران، وقد أدى بناء السدود الكبرى وتعديل سياسات الإطلاقات المائية في البلدين الجارين إلى تقليص الحصة المائية الواصلة إلى الداخل العراقي.
ويضيف الدليمي إلى أن ثاني العوامل هو التغير المناخي، إذ يعدّ العراق ضمن أكثر الدول هشاشة أمام تغير المناخ، مع تسجيل ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة، وتراجع معدلات الأمطار، وتكرار موجات الجفاف.
وثالثاً يأتي "تدهور إدارة الموارد المائية داخلياً"، حسب الدليمي، موضحاً أن "استخدام تقنيات الري الحديثة ما زال محدوداً، أما رابع العوامل فهو تملح التربة والاستنزاف الجوفي جراء توسّع الاعتماد على الآبار".
بدوره، يفسّر المختص بالشأن البيئي أحمد حسن، كيف أن تراجع الغطاء النباتي مولِّد رئيسي للعواصف الترابية التي تخنق المدن وتؤثر في صحة الناس.
ويقول حسن: "كلما فقدنا نباتاً محلياً، ازداد تعرض التربة العراقية للتعرية الهوائية والسطحية، ونفقد خدمات النظام البيئي مثل امتصاص الكربون، وتلطيف المناخ المحلي، والحفاظ على الرطوبة".
ويشرح حسن تأثيرات الجفاف لافتاً إلى أنها تتمثل بـ"فقدان الكتلة النباتية وزيادة فقدان المواد العضوية وخفض قدرة التربة على احتجاز الماء، ما يؤدي إلى تدهور هيكل التربة وزيادة النفاذية للرياح".
من جهته يوضح الباحث في الشأن البيئي، حسين النداوي، المخاطر التي تهدد الأحياء المائية في العراق جراء التصحر، مبيناً أنه لاحظ أن انخفاض التدفق النهري وارتفاع الملوحة أدى إلى انخفاض التنوع السمكي وازدياد الهجرة والنفوق.
ويلفت النداوي إلى أن "السلسلة الغذائية" تضررت كثيراً ومهددة بضرر أكبر جراء توسع الجفاف.
ومن جانب آخر يوثق النداوي من واقع زيارات ميدانية لقرى في محافظات الوسط والجنوب، مشاهد الهجرة الداخلية، مؤكداً أن "العديد من العائلات لم تعد ترى جدوى من البقاء على الأرض".
وأشار إلى أن هذا التحول الاجتماعي له آثار فورية تتمثل في "تراجع إنتاج الحبوب والخضراوات المحلية، وانهيار سلاسل الإمداد المحلية، وزيادة الضغط على المدن من خلال موجات نزوح ريفي".









