بغداد/ تميم الحسن
دخلت عملية اختيار رئيس الوزراء المقبل رسمياً مرحلة ما يصفه قادة بارزون في «الإطار التنسيقي» بـ«الانسداد السياسي»، بعد مرور نحو أربعين يوماً على إعلان نتائج الانتخابات، من دون التوصل إلى توافق حول المنصب التنفيذي الأهم في البلاد.
وأسفرت الانتخابات الأخيرة عن فوز القوى الشيعية بأكثر من نصف مقاعد البرلمان، إلا أن هذا التفوق العددي لم يترجم حتى الآن إلى حسم سياسي، في ظل خلافات داخلية متصاعدة بشأن هوية رئيس الحكومة المقبلة وشروط تسميته.
وخلال الأسابيع الماضية، راجت في الأوساط السياسية روايات عن التوصل إلى «اختيار غير معلن» لرئيس الوزراء المقبل، إلا أن مبادرة حديثة طرحتها إحدى القوى الشيعية الرئيسية لمعالجة الأزمة نسفت تلك الأنباء، وكشفت أنها لم تكن سوى تقديرات مبالغ فيها لا تستند إلى وقائع ملموسة.
في هذا السياق، أعلن ائتلاف رئيس الوزراء المنتهية ولايته محمد شياع السوداني تقديم مبادرة لمعالجة أزمة تشكيل الحكومة، مشيراً إلى أن المشهد السياسي بات عالقاً بين «الانسداد» و«المراوحة»، من دون تقدم ملموس نحو حل نهائي.
وتعقّد هذا المسار أكثر مع تصاعد الخلاف حول ملف «نزع سلاح الفصائل»، بعدما رفض فصيلان بارزان ضمن ما يُعرف بـ«محور المقاومة» الانضمام إلى الدعوات المطالبة بتفكيك الجماعات المسلحة، وهو ملف بات محورياً في المفاوضات السياسية الجارية.
وبحسب التوقيتات الدستورية، تمتلك القوى الشيعية أقل من شهرين لتسمية رئيس الوزراء الجديد، في وقت تتزايد فيه الضغوط الخارجية، لا سيما من الولايات المتحدة، التي بعثت برسائل واضحة تشترط أن يكون المرشح بعيداً عن الفصائل المسلحة، وقادراً على فرض سلطة الدولة.
«الانسداد مستمر»!
وسط تعثّر المفاوضات، طرح ائتلاف «الإعمار والتنمية» الذي يقوده رئيس الوزراء المنتهية ولايته محمد شياع السوداني، أمس، مبادرة سياسية شاملة – لم يكشف عن تفاصيلها حتى اللحظة – تهدف إلى حسم منصب رئاسة الحكومة وإنهاء ما وصفه بـ«الانسداد السياسي»، في خطوة عكست بوضوح عجز «الإطار التنسيقي» حتى الآن عن الاتفاق على مرشح نهائي، خلافاً لما يجري الترويج له في الأوساط السياسية.
وقال إعلام «تيار الفراتين»، الذي يتزعمه السوداني، في بيان، إن الأخير ترأس اجتماعاً دورياً للائتلاف خُصص لمناقشة التطورات المتسارعة في المشهد السياسي، ومراجعة نتائج الحوارات المكثفة التي أجراها الائتلاف مع قوى سياسية ووطنية خلال المرحلة الماضية، إلى جانب تثبيت ملامح رؤيته لإدارة الدولة في الاستحقاق الحكومي المقبل.
وأضاف البيان أن الائتلاف بلور مبادرة سياسية «متكاملة» تهدف إلى كسر حالة الانسداد وإنهاء المراوحة التي عطّلت حسم ملف رئاسة مجلس الوزراء، عبر طرح معالجات واقعية تستند إلى التوافق الوطني والاستحقاق الدستوري.
وأكد المجتمعون أن المبادرة – يفترض أن تُسلَّم اليوم (مساء الإثنين) إلى الإطار التنسيقي – تمثل محاولة «مسؤولة» لإعادة تحريك العملية السياسية ووضعها على مسارها صحيح، مشيرين إلى أن تفاصيلها ستُعرض على قوى «الإطار التنسيقي» في اجتماعه المرتقب، بما قد يفتح الباب أمام تفاهمات جدية تقود إلى تشكيل حكومة مستقرة قادرة على إدارة المرحلة المقبلة.
وشدد الائتلاف على أن المبادرة تنطلق من قناعة بضرورة حسم الخيارات السياسية بعيداً عن التسويف، والعمل على تشكيل حكومة فاعلة تعبّر عن تطلعات الشارع، وتضع أولويات الإصلاح والاستقرار السياسي والاقتصادي في صدارة برنامجها.
وقبل أيام، كان «الإطار التنسيقي» قد قرر طرق باب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، لاستطلاع رأيه بشأن أسماء مرشحي رئاسة الحكومة، في خطوة تتكرر عند كل منعطف سياسي حساس، ويصفها خصومه بأنها أقرب إلى التخبط منها إلى التكتيك.
وبحسب مصادر سياسية مطلعة، فإن هذا السلوك يعكس تردداً عميقاً وخشية من اتخاذ قرار نهائي في لحظة شديدة الحساسية، إذ يتأرجح التحالف الشيعي بين محاولة استقراء موقف الصدر، وانتظار إشارات المرجعية الدينية، من دون تحويل تلك القراءات إلى قرار سياسي واضح.
وتقول المصادر إن التحالف «يلف ويدور» منذ أسابيع في ملف رئاسة الحكومة، في ظل تنافس محتدم بين اسمين رئيسيين فقط: محمد شياع السوداني ونوري المالكي، وكلاهما يصر على تولي المنصب رغم وجود أسماء أخرى مطروحة نظرياً.
وأكد قصي محبوبة، القيادي في تحالف «الإعمار والتنمية»، أن «الإطار التنسيقي» لا يبدو قريباً من حسم خيار رئيس الحكومة، مشيراً في تصريح لـ«المدى» إلى أن الإطار «لا يمتلك حتى الآن آليات أو معايير واضحة لتقييم المرشحين أو التصويت عليهم».
وكان التحالف الشيعي قد روّج في الأيام الماضية إلى أنه حسم اسم رئيس الوزراء، لكنه سيتجنب إعلان ذلك حتى اللحظات الأخيرة من التوقيتات الدستورية المؤدية إلى تشكيل الحكومة، والتي يفترض أن تنتهي خلال أقل من شهرين. غير أن مبادرة السوداني الأخيرة بدت وكأنها تناقض هذا الطرح.
وفي الأسابيع التي تلت إعلان نتائج الانتخابات، تحدث «الإطار التنسيقي» عن دراسة ملفات نحو 40 مرشحاً عبر لجنة «مقابلة المتقدمين»، وهي لجنة تضاربت الروايات بشأن تشكيلها، وجرى الحديث في إحدى المرات عن وجود ممثل عن مرجعية النجف ضمنها.
وسرد ناطقون ومقرّبون من التحالف تفاصيل عن مقابلات المرشحين، مشيرين إلى أن القائمة تقلصت من 40 اسماً إلى 15، ثم إلى 9، قبل أن تستقر على ثلاثة مرشحين فقط.
كما روّجت أوساط شيعية أن بعض أطراف «الإطار» أرسلت قائمة أسماء إلى النجف لاستطلاع رأي المرجع علي السيستاني، قبل أن يُقال لاحقاً إن المرجعية رفضت هذا المسار.
لكن «المدى» كانت قد كشفت مبكراً، نقلاً عن مصادر قريبة من القرار السياسي، أن طرح أسماء مثل محافظ البصرة أسعد العيداني ووزير الشباب الأسبق عبد الحسين عبطان وآخرين، لم يكن سوى «أسماء للحرق»، معتبرة أن لجنة مقابلة المرشحين لم تكن أكثر من أداة لكسب الوقت وتشتيت الانتباه.
وعقد «الإطار التنسيقي» خمسة اجتماعات منذ إعلانه، الشهر الماضي، أنه الكتلة البرلمانية الأكبر بنحو 170 مقعداً، تمهيداً لتكليف شخصية من داخله بتشكيل الحكومة المقبلة، من دون أن ينجح حتى الآن في حسم خياره.
بعيداً عن «مجموعة الأزمة»!
من جانب آخر، أفادت تسريبات في الأوساط السياسية، اطّلعت عليها «المدى»، بأن اجتماعاً للقوى الشيعية عُقد مساء الأحد في منزل هادي العامري، زعيم «منظمة بدر»، إلا أنه جاء مختلفاً عن اجتماعات «الإطار التنسيقي» السابقة، لغياب جميع الأسماء المطروحة لرئاسة الحكومة.
وبحسب تلك التسريبات، فقد عُقد الاجتماع من دون حضور رئيس حكومة تصريف الأعمال محمد شياع السوداني، وزعيم ائتلاف «دولة القانون» نوري المالكي، ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، في مؤشر على بحث «سيناريوهات بديلة» لمعالجة أزمة رئاسة الحكومة، بعيداً عن شخصيات بات يُنظر إليها داخل بعض الأوساط الشيعية على أنها جزء من تعقيد المشهد.
وترى أطراف شيعية أن المرحلة المقبلة قد تشهد دوراً محورياً لكل من قيس الخزعلي، زعيم «عصائب أهل الحق»، وهادي العامري، في ترجيح كفة مرشح رئاسة الوزراء، بعد أن نجحا، وفق تلك الأطراف، في تأمين نحو 50 مقعداً نيابياً لكتل توصف بأنها «منضبطة» وذات قرار سياسي موحّد.
ويُقابل هذا الثقل البرلماني تماسكٌ أقل في الكتل التي يستند إليها كل من السوداني والمالكي، إذ تتوزع مقاعدهما على ما لا يقل عن ستة كيانات سياسية، بعضها كردي وسني، وهو ما يجعل قرارها أكثر تشتتاً، ويحدّ من قدرتها على فرض مرشح يحظى بإجماع سريع داخل «الإطار التنسيقي».
شروط على الطاولة
وعلى الضفة الأخرى من التعقيدات، يواجه التحالف الشيعي اختباراً أكثر حساسية يتمثل في كيفية التعامل مع ملف «الفصائل المسلحة»، التي تسعى بعض أطرافها إلى فرض شروطها في معادلة تشكيل الحكومة، سواء عبر التأثير على هوية رئيس الوزراء المقبل، أو من خلال المطالبة بالحصول على «مناصب سيادية» على أقل تقدير.
وخلال الأسابيع الماضية، بدأت فصائل بعضها منضوية داخل «الإطار التنسيقي» بالإعلان عن توجهها لتسليم السلاح، في خطوة جاءت على خلفية رسائل ضغط أميركية متصاعدة. غير أن فصيلين بارزين، هما «كتائب حزب الله» و«حركة النجباء»، رفضا الانخراط في هذه الدعوات، ما عمّق الانقسام داخل البيت الشيعي بشأن هذا الملف الشائك.
وفي هذا السياق، رحب مارك سافايا، مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى العراق، بأن توجه بعض الجماعات المسلحة نحو نزع السلاح يمثل «تطوراً مشجعاً» ويتقاطع مع دعوات المرجعية الدينية، إلا أنه شدد على أن التصريحات وحدها لا تكفي، داعياً إلى نزع شامل وغير قابل للتراجع، يُنفّذ ضمن إطار وطني ملزم يكرّس حصرية السلاح بيد الدولة.
وحذّر سافايا من أن العراق يقف عند مفترق طرق حاسم، بين ترسيخ السيادة والاستقرار، أو الاستمرار في دوامة التفكك والسلاح المنفلت.
وكان «الإطار التنسيقي» قد اضطر، في مرحلة سابقة، إلى توسيع تحالفه ليضم أكبر عدد ممكن من القوى الشيعية، بما فيها كتل لم تحصد سوى مقعدين أو ثلاثة، في مسعى لتثبيت نفسه بوصفه الكتلة البرلمانية الأكبر. إلا أن هذا التوسع، وفق تقديرات سياسية، جاء بكلفة واضحة.
فالأطراف الصغيرة المنضوية ضمن التحالف لا تبدو مستعدة لمنح الحكومة المقبلة «صكاً على بياض»، إذ تشير التقديرات إلى أن موافقتها ستكون مشروطة بضمان «مكاسب محددة»، الأمر الذي يجعل عملية تشكيل الحكومة الجديدة رهينة شبكة معقدة من المطالب المتقاطعة، يصعب تلبيتها جميعاً من دون تفجير أزمات جديدة داخل التحالف نفسه.









