TOP

جريدة المدى > عام > انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟ هنا مكمن قوتك

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟ هنا مكمن قوتك

نشر في: 24 ديسمبر, 2025: 12:04 ص

رامي كامنسكي*
ترجمة: لطفية الدليمي
يُمضي بعض الأشخاص حياتهم وهم يشعرون بأنهم خارج المكان Out of Place؛ بمعنى أنّهم لا ينتمون إلى أيّ من المجموعات أو التجمّعات المعروفة اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو مهنيًّا. يبدو هذا أمرًا غير مرغوب فيه من جانب الكثرة من البشر؛ لكنّه قد يترافق مع فرص فريدة في الحياة.
«لا أستطيع تفسير ذلك. إنه شخص لطيف. شاب جميل من الداخل والخارج، وذكي للغاية.» : هكذا بدأت جلسة لي مع «ن»، مريضتي القديمة، قبل بضع سنوات. كان ابنها «أ» مراهقًا صغيرًا، ورغم أنّه ينتمي إلى عائلة دافئة ومُحِبّة ووالدين مهتمين؛ إلا أنه بدأ يواجه صعوبات اجتماعية لا يمكن إغفالُها. لم يكن «أ» يتعرض للتنمر أو يُهمَل في المدرسة. لم يكن مكتئبًا أو متقلب المزاج أو قلقًا. في الواقع كان مشهورًا ومحبوبًا، ويُدعى باستمرار إلى الحفلات ومباريات كرة السلة والخروج مع مجموعات من الشباب. المشكلة أنه رفض كل هذه الدعوات، ولم تستطع «ن» فهم السبب.
بعد ثلاثة أسابيع، جلست مع «أ» في مكتبي. طلبت منه أن يصف تجربته في حضور الحفلات والمناسبات الإجتماعية الأخرى. قال: «أشعر بغُربة عظيمة، وكأنني لست جزءًا من الجماعة التي أشاركها، وهو أمر غريب لأنّ هؤلاء جميعًا هم أصدقائي. أعلم أنهم يحبونني ويُسعَدون بوجودي؛ لكنني ما زلت لا أشعر بتواصل حقيقي معهم.»، ثمّ أضاف:» أشعر بالوحدة أو الملل فقط عندما أكون مع الكثير من الناس، وليس مع صديق أو اثنين من الأصدقاء المقرّبين أو عندما أكون وحدي. لا أحبّ قول هذه الأشياء لأنها تجعلني أبدو ككائن فضائي. هل تعتقد أن هناك خطبًا ما ؟». خلال أكثر من أربعين عامًا من ممارستي للطب النفسي والمعالجة النفسية، عملت مع قادة عالميين وفنانين مسرحيين ومحترفين في قمة تخصصاتهم، وكثيرًا ما يتّضح أنهم عاشوا حياتهم وهم يشعرون تمامًا بالشعور الذي وصفه «أ».
هؤلاء أشخاص يفضّلون دائمًا تناول العشاء مع صديق على انفراد بدلًا من حضور حفل عشاء. وعندما يضطرون لحضور تجمعات كبيرة يكونون الشخصيات المنعزلة فيها، تراهم منغمسين في حديث عميق مع شخص آخر بدلًا من «العمل الجماعي». يفضّلون أداء مهام العمل بشكل فردي بدلًا من العمل الجماعي، ويكرهون ممارسة الرياضات الجماعية، ويجدون التقاليد أو الطقوس المشتركة للحياة الجماعية – على شاكلة: حفلات المكتب، وحفلات التخرّج، وحتى الأعياد الدينية - صعبة بل وباعثة على الحيرة. إنهم عازفون منفردون، لا يستطيعون العزف في أوركسترا. أنا أحسبُ نفسي واحدًا منهم.
الغالبية العظمى من هؤلاء الأشخاص لا يعانون من أي تشخيص نفسي مَرَضي؛ فهم ليسوا غير متكيفين اجتماعيًا أو حتى قلقين اجتماعيًا. بعد سنوات طويلة قضيتها في مراقبة هذه السمات والبحث فيها انتهيتُ إلى أنها متجذرة لدى بعض الناس من جميع الأعراق والثقافات والأجناس. انها خصيصة تتميز بغياب الدافع المجتمعي - أي عدم الانتماء Non-Belonging.
عندما بدأتُ الكتابة عما اكتشفته، بحثتُ عن كلمة لوصف هذا النوع من الشخصية الذي يُساء فهمُهُ إلى أبعد الحدود. معظم الناس على دراية بمفاهيم كارل يونغ عن المنفتح Extrovert («الشخص الذي يواجه الخارج») والانطوائي Introvert ("الشخص الذي يواجه الداخل"). لكنّ التوجه الأساسي لشخصية غير المنتمي يُعرّف بأنه نادرًا ما يتشارك الإتجاه او الحالة الذهنية أو الإجتماعية للجماعة التي يوجد فيها. تماشياً مع سياق يونغ في توصيف الشخصيات اجتهدتُ في نحت مصطلح Otrovert لوصف هذه الشخصية. Otro بالإسبانية تعني (الآخر). (سأسمّيهم "النافرون من مخالطة الآخرين". المترجمة)
عاش العديد من النافرين من المخالطة الإجتماعية حياتهم مفترضين أنّ قلة اهتمامهم بالحفلات وغيرها من الأنشطة الاجتماعية تعني بالضرورة أنهم انطوائيون حسب التوصيف اليونغي. لكنّ الانطوائيين يختلفون عن النافرين من المخالطة الإجتماعية في عدة جوانب رئيسية: فبينما يميل الإنطوائيون إلى الهدوء والتحفظ، يمكن للنافرين من المخالطة، مثل مريضي «أ»، أن يكونوا اجتماعيين ومنفتحين. لا يكون الإنطوائي عادةً أول من يتحدث بحزم في اجتماع عمل؛ لكنّ النافرين من المخالطة الإجتماعية لا يجدون صعوبة في الوقوف والتعبير عن وجهة نظرهم بثقة. كذلك على عكس الانطوائيين الذين يكون معظمهم منهكًا تمامًا من الساعات التي يقضونها في ركن هادئ من حانة يتحدثون فيها مع أقرب أصدقائهم، يميل النافرون من المخالطة إلى اكتساب الطاقة من هذه المحادثات العميقة. يستمتع النافرون من المخالطة بالوقت المنفرد الذي يقضونه مع أنفسهم تمامًا مثل الإنطوائيين؛ ولكن ليس بدافع الحاجة إلى الإنفصال أو استعادة النشاط المستنزف في فعالياتهم اليومية بل لتجنّب الوحدة والانفصال اللذين يشعرون بهما عندما يكونون محاطين بالآخرين.
بالنسبة للآباء، غالبًا ما يكون أطفال مثل «أ»مصدرًا للارتباك والقلق. لمّا كان معظم الآباء قد خضعوا لتربية أسرية تشدّدُ على اعتبار عضوية الجماعة أساسًا لحياة ناجحة، فإنّ العديد منهم يدفعون أطفالهم ليكونوا أكثر «اجتماعية». في المدرسة، حيث يُدرّبُ المعلمون على ملاحظة الطلاب الذين يَبْدون «غير متأقلمين اجتماعيًا»، فإنّ الطفل الذي لا ينضمُّ إلى الآخرين في الملعب غالبًا ما يُثير مكالمات هاتفية مع والديْه، أو زيارات لمستشاري المدرسة، أو حتى معالجًا نفسيًا.
تُولي ثقافتنا أهمية كبيرة للإنضمام إلى الجماعة. يبدأ دليل هذه الأولوية في وقت مبكر جدًا من حياتنا، عندما يعلموننا المشاركة، واللعب بلطف مع الأطفال الآخرين، ومواءمة سلوكنا مع سلوك مَنْ حولنا. عندما يقف الآخرون في صف يُطلَبُ منّا الوقوفُ فيه. وعندما يتحدث الآخرون بهدوء يُطلب منا خفضُ أصواتنا. طوال حياتنا يُعزز تربيتَنا الإجتماعية المبدأُ الثقافيُ الثابت الوحيد في مجتمعنا والذي مفادهُ أنّ عضوية الجماعة شرطٌ أساسيُّ لحياة غنية ومجزية. وبينما ينطبق هذا على كثيرين فإنه لا ينطبق على الإنطوائيين والنافرين من المخالطة الإجتماعية معًا.
نُولي أهمية كبيرة لروح المشاركة في الأنشطة الإجتماعية لدرجة أنّ أي موقف مختلف يُعتبر مرضًا. يُنظر إلى النافرين من المخالطة الإجتماعية على أنهم غريبو الأطوار ومخطئون لتفضيلهم العزلة على الإختلاط، وهم دومًا عُرْضة لضغوط الأقران من ذوي النوايا الحسنة الذين يرغبون بصدق في صحبتهم أو يكرهون أن "يفوتهم" كلُّ المرح. ما يغفله هؤلاء هو أنّ النافرين من المخالطة يجدون في الجلوس على الهامش حريةً ورضا كبيريْن.
في السنوات الأخيرة ساد قلقٌ بالغٌ إزاء المستويات القياسية للوحدة والإغتراب والإستقطاب الفرداني التي تُبتلى بها مجتمعاتنا. أشار كُتّابٌ ومفكرون وصانعو سياسات، وحتى كبيرُ الجراحين الأمريكيين US Surgeon General إلى تراجع الحياة الجماعية كسببٍ رئيسيٍّ لتدهور الصحة النفسية، واقترحوا حلولاً تتراوح بين الإبتعاد عن وسائل التواصل الإجتماعي وتوسيع شبكات الدعم الإجتماعي. نظرياً، هذه الأفكار ليست بلا أساس. لكن، عملياً، نشهد تزايداً في النقاشات حول أهمية المجتمع، بينما نزداد وحدةً وانقساماً من أيّ وقت مضى.
الإنطوائيون، ومعهم النافرون من المخالطة الإجتماعية، مُهيأون جيداً ليس فقط للنجاح في عالمنا المُشتت والغاضب، بل أيضاً لإرشاد الآخرين. السبب بسيط: إنهم يرون الناس، بمن فيهم أنفسهم، كأفراد، وليسوا مجرد أفرادٍ مجهولين في قبيلة. من السهل أن تكره جماعةً لا شكلَ لها، تتعامل معها باحتقار على اعتبارها مختلفةً أو أدنى منزلةً أو مُهددةً. لكن من الأصعب بكثير تعميمُ عدائك عندما تنظر إلى الناس على حقيقتهم.
النافرون من المخالطة الإجتماعية لا يشعرون بأي التزام بتأييد الموقف أو الرأي أو وجهة النظر الجماعية؛ لذا فهُمْ يتميزون بإستقلالية شديدة، وفكر خارج الصندوق، وابتعاد عن الممارسات القطيعية، ويتعاملون مع المشكلات من زوايا جديدة، ممّا يؤدي -غالبًا- إلى اكتشافات إبداعية ومساهمات فريدة. ولأنهم يُعرّفون النجاح بما يحققونه، لا بما يحققونه من خلال علاقاتهم بالآخرين، فهُمْ أكثر اكتفاءً على الصعيدين الإبداعي والمهني.
بالنسبة للشخص النافر من المخالطة الإجتماعية، يُعدّ تقبّل ما نعتبره عبارة مبتذلة «لا بأس أن تكون كما أنت. هذا ليس سيّئاً» تحوّلاً جذرياً بدلًا من أن يكون مرثية أو عبارة مشفِقة. لقد عاش الكثير منّا، نحن النافرين من التجمّعات البشرية، طوال حياتنا تجربة سوء الفهم. عندما ندرك أخيراً أن لا وجود لخطأ في هويتنا يكون ذلك بمثابة تنفيس عميق للنفس.
مع هذا الإدراك، يمكننا أن نمنح أنفسنا الإذن بالتخلّي عن الأمور التي تسبّبُ لنا الإزعاج، وبناء علاقات أعمق وأكثر حباً مع من نشعر بالقرب منهم، وقبول ذواتنا الحقيقية. نكتشف، كما كتب فريدريك نيتشه، النافر الإجتماعي المثالي، ذات مرة: «لا أحد يستطيع أن يبني لك الجسر الذي يتوجّبُ أن تعبر عليه نهر الحياة. لا أحد سواك وحدك».
اليوم، ازدهرت شخصية «أ» حقاً. يبلغ من العمر الآن 24 عاماً، وهو بصدد الحصول على درجة الدكتوراه في علم النفس، وقد خطب مؤخراً صديقته الجامعية، ولا يزال قريباً من أفضل أصدقاء طفولته. في بعض النواحي سيبقى دائماً مراقِباً للمجموعات المهنية أو الإجتماعية وليس مشاركاً حقيقياً فيها. لكنه مشاركٌ كاملٌ في حياته الخاصة: راضٍ تمامًا عمّا يختار فعله، وعن الأشخاص الذين يختار أن يكون معهم. في عالمٍ مُصممٍ للإفراط في المشاركات الإجتماعية، هذا هو المسار الأمثل للشخص الإنطوائي او النافر من تلك التجمّعات.
قراءات اضافية
* رامي كامينسكي Rami Kaminski: طبيبٌ نفسيٌّ ومؤلف كتاب «هدية عدم الانتماء The Gift of Not Belonging " . (المترجمة)
- الموضوع المترجم أعلاه منشور بتأريخ 25 آب (أغسطس) 2025 ضمن سلسلة The Big Idea في صحيفة (غارديان) البريطانية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

فاضل السلطاني شاعر الترحال والبحث عن الذات

رواية سونتاج (في أمريكا) عن الهجرة واكتشاف الذات

كريم السعدون.. شاعر اللون وصوت الإنسان في فضاء التشكيل

أنشودة المقهى الحزين

مقالات ذات صلة

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟  هنا مكمن قوتك
عام

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟ هنا مكمن قوتك

رامي كامنسكي* ترجمة: لطفية الدليمي يُمضي بعض الأشخاص حياتهم وهم يشعرون بأنهم خارج المكان Out of Place؛ بمعنى أنّهم لا ينتمون إلى أيّ من المجموعات أو التجمّعات المعروفة اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو مهنيًّا. يبدو...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram