متابعة المدى
مع اقتراب أعياد الميلاد ورأس السنة، بدت بغداد وكأنها تستعيد إيقاعًا مختلفًا لشتائها، إيقاعًا لا تصنعه فقط الزينة أو الأضواء الخافتة، بل تصوغه الموسيقى واللقاءات والبحث الجماعي عن فسحة فرح وسط مدينة اعتادت أن تختبر الحياة بأقصى تناقضاتها. في هذا السياق، أقامت الفرقة السمفونية الوطنية العراقية حفلها الخاص بالكريسمس تحت عنوان «أجندة حفل الكريسمس» على خشبة المسرح الوطني، بقيادة المايسترو محمد أمين عزت، وسط حضور مكتمل العدد في اليوم الثاني من الأمسية، في مشهد يعكس تعطش الجمهور للفن بوصفه فعل حياة.
على مدى ساعة ونصف، تنقّل الجمهور بين مقطوعات عالمية كلاسيكية ومعزوفات احتفالية ذات طابع شتوي، قُدّمت بحساسية عالية وتناغم لافت بين العازفين. لم يكن البرنامج مجرد استعراض تقني، بل رحلة موسيقية صاغتها الفرقة بعناية، حيث بدا واضحًا حرص المايسترو على خلق توازن بين الرصانة الأكاديمية والطاقة الاحتفالية، مع تنويع الآلات والانتقالات الإيقاعية التي أبقت القاعة في حالة إنصات تام.
أحد الحاضرين، أحمد (29 عامًا)، قال لوكالة الأنباء العراقية ( واع ) إنه حجز مقعده “فور فتح المنصة” خشية نفاد التذاكر، مضيفًا أن حضور حفل سمفوني في بغداد “يعيد تذكير الناس بأن الثقافة والفن جزء أصيل من هذا البلد، وأن الموسيقى قادرة على جمع المختلفين في لحظة مشتركة”. وأشار إلى أن تنوّع المقطوعات منح الأمسية طاقة خاصة، سمحت للجمهور بأن يعيش حالة فرح هادئة، بعيدة عن الصخب اليومي.
ومن بين الحضور أيضًا، رنا (34 عامًا)، وصفت التجربة بأنها أقرب إلى “استعادة بغداد لنبضها الشتوي”، مشيرة إلى رمزية أجواء الكريسمس في المدينة. وقالت: “أجراس الكريسمس في بغداد لها نكهة خاصة… ومع اقتراب رأس السنة، يشعر الناس بحاجة إلى مساحة آمنة للبهجة، وإلى موسيقى تفتح نافذة أمل داخل كل هذا الضجيج”. وأكدت أن أكثر ما أبهجها هو تهنئة المايسترو وفرقته للمسيحيين بحلول أعياد الميلاد، معتبرة أن أفراحهم “هي أفراح جميع العراقيين”.
الحفل بدا، في جوهره، أكثر من مجرد مناسبة فنية؛ كان رسالة واضحة بأن جمهور بغداد ما زال يبحث عن الفن بوصفه حاجة يومية، ويملأ القاعة حين يُقدَّم له برنامج رصين ومتماسك. فالمسرح الوطني، الذي احتضن الأمسية ضمن برنامج موسم الأعياد الذي تنظمه وزارة الثقافة والسياحة والآثار، امتلأ عن آخره، في مشهد أعاد للأذهان زمن كانت فيه القاعات الثقافية جزءًا أساسيًا من الحياة البغدادية. في بغداد، لا تأتي احتفالات الكريسمس ورأس السنة بوصفها طقسًا عابرًا، بل كمناسبة لإعادة طرح أسئلة الهوية والعيش المشترك
وقد أُتيحت التذاكر عبر منصة “تكت زون” التي سجلت ضغطًا عاليًا على الحجز منذ اللحظات الأولى، ما يفسر نفاد المقاعد سريعًا وتحول الليلتين إلى حجز مكتمل خلال وقت قياسي. زهراء (27 عامًا)، وهي من الحاضرات، ترى أن حضورها لم يكن للترفيه فقط، بل “رغبة في استعادة إحساس المدينة بنفسها”. وتقول: “أحيانًا نحتاج إلى الموسيقى حتى نتذكّر أن بغداد تعرف الفرح، ويليق بها ضحكات الناس وتصفيقهم وإنصاتهم للجمال. أجراس الكريسمس هنا تحمل معنى مزدوجًا: احتفال، وتمسّك بالحياة”. وأضافت أن شعورها، مع اقتراب السنة الجديدة، كان أن القاعة كلها “تتنفس بنفس الإيقاع، كأن الموسيقى تقول للناس: ما زال لدينا ما نحتفل به”.










