بغداد/ تبارك عبد المجيد
لم تعد طيور الفلامنكو التي تحط سنوياً في جنوب العراق رمزاً للجمال والتوازن البيئي، بل تحولت إلى شاهد حي على واحدة من أكثر الأزمات البيئية قسوة في البلاد. فبين أسواق تُعرض فيها الطيور المهاجرة كسلعة رخيصة، وحقول نفط تحاصر ما تبقى من الأهوار، تتكشف مأساة مزدوجة عنوانها الصيد الجائر والتجفيف المتعمد، في مشهد يعكس غياب الحماية الرسمية وتغوّل المصالح السياسية على حساب الطبيعة والتاريخ معاً.
يقول الناشط البيئي من أهوار ميسان، مجتبى الأهواري، إن ملف الطيور المهاجرة المتداول منذ أيام لا يمكن فصله عن الكارثة البيئية التي تعيشها الأهوار اليوم؛ فهذه المناطق، التي كانت لسنوات طويلة الملاذ الأكثر أمناً للطيور المهاجرة، تحولت في محافظة ميسان إلى مساحات جافة بنسبة ١٠٠٪، ما فتح الباب واسعاً أمام عمليات صيد جائر ومنظم.
ويوضح الأهواري لـ(المدى)، أن الأهوار كانت تشكل الحاضنة الطبيعية للطيور القادمة من روسيا وأوروبا الشرقية، إذ تجد فيها الدفء والغذاء والاستقرار خلال رحلتها الطويلة. أما اليوم، ومع جفاف الأهوار، لم يعد أمام هذه الطيور أي مأوى بديل؛ لتقع فريسة سهلة لشبكات الصيد المنتشرة.
هذه البحيرات، بحسب حديثه، تُغذى بالمياه بشكل مستمر وتُحاط بشباك محكمة، ما يجعلها مصيدة جماعية تستدرج الطيور بأعداد هائلة. «مهما كان عدد الطيور التي تصل، فإنها ستُصاد في هذه الأماكن»، يقول الأهواري، مشيراً إلى أن الصيد الجائر لا يقتصر على ميسان وحدها، بل يمتد إلى عدة محافظات جنوبية أخرى، مستفيداً من غياب الأهوار الطبيعية بعد تجفيفها المتعمد.
ويضيف أن السبب الأول والرئيسي لتفاقم هذه الظاهرة هو تجفيف الأهوار وتحويل أجزاء منها إلى حقول نفطية، ما أفقد الطيور محطتها العالمية الأهم.
فالعراق، كما يوضح، يُعد محطة أساسية على خارطة هجرة الطيور، وكان من المفترض أن يوفر لها بيئة آمنة، إلا أن الواقع الحالي يقول عكس ذلك تماماً.
وعن دور الجهات الرسمية، يتساءل الأهواري بمرارة: «من يحاسب المسؤولين؟»؛ فرغم أن الجهات الرقابية والحكومية هي المعنية بالمتابعة والمحاسبة، إلا أن الحقيقة – بحسب وصفه – أن معظم مواقع الصيد الجائر تعود لجهات سياسية نافذة، من نواب ومسؤولين محليين ومركزيين، يتمتعون بحصانة كاملة تحول دون محاسبتهم.
ويروي الأهواري حادثة تعكس حجم النفوذ، حين سأل أحد المسؤولين عن سبب عدم اتخاذ أي إجراء، فجاءه الرد بأن «الخضيري وصل إلى البرلمان»، في إشارة ساخرة إلى أحد أنواع الطيور المهاجرة، وكأن الصيد بات محمياً بغطاء سياسي لا يمكن المساس به.
ويشير إلى أن هذه المواقع تقع في مناطق حساسة قرب حدود هور الحويزة، وهي محمية من قبل حرس الحدود، ما يجعل الوصول إليها أو توثيق ما يجري فيها أمراً بالغ الصعوبة. ويؤكد أن ما يقارب ٥٠٠ زوج من الطيور، أي نحو ألف طائر، تُصاد بشكل متكرر طوال موسم الشتاء.
من جهتها، ترى المهتمة بالشأن البيئي نجوان علي أن التركيز المتزايد في الأيام الأخيرة على حماية الطيور المهاجرة من الصيد الجائر، رغم أهميته، لا يعالج جوهر الأزمة البيئية التي تهدد هذه الطيور في العراق.
وتشير إلى أن العديد من الحسابات والقنوات والجهات البيئية تنشر دعوات متكررة للحد من الصيد، وهي جهود تشكر عليها، لكنها تؤكد أن الخطر الأكبر والأكثر تأثيراً لا يزال متمثلاً في عمليات التجفيف المتعمد للأهوار والتوسعات النفطية داخلها.
وتوضح نجوان لـ(المدى)، أن هذه السياسات لا تهدد الطيور المهاجرة وحدها، بل تضرب النظام البيئي بأكمله، من خلال القضاء على الثروة السمكية والحيوانية، وانعكاس ذلك بشكل مباشر على حياة الإنسان، إذ تسهم في زيادة معدلات الهجرة السكانية وفقدان مصادر العيش التقليدية لسكان الأهوار.
وتنتقد علي ما تصفه بغياب المواقف الجادة لدى بعض الجهات التي تندد اليوم بالصيد الجائر، من دون أن تتخذ موقفاً واضحاً ضد التوسع النفطي على حساب الأهوار، رغم أن بقاء هذه المناطق الرطبة يضمن بيئة طبيعية آمنة للطيور، ويجعل عملية الصيد أكثر صعوبة، فضلاً عن كونها مناطق واسعة وغنية بالغذاء والتنوع الحيوي.
وتؤكد أن حماية الأهوار يجب أن تكون الأولوية الأولى في أي جهد بيئي حقيقي، محذرة من أن الأهوار العراقية تقف اليوم عند منعطف خطير يهدد آخر ما تبقى منها.
ومن زاوية تاريخية، يضيف شاكر محمد، مختصٌّ في قسم التاريخ، أن الأهوار لم تكن مجرد بيئة طبيعية عابرة، بل شكلت عبر آلاف السنين جزءاً أساسياً من هوية المكان والإنسان في جنوب العراق.
ويقول إن النصوص التاريخية والرحلات القديمة تشير بوضوح إلى وفرة الطيور في الأهوار، وارتباطها بنمط حياة السكان، حيث كانت الطيور المهاجرة رمزاً لدورة الحياة الموسمية واستقرار البيئة.
ويتابع شاكر لـ(المدى)، أن ما يجري اليوم لا يمثل فقط اعتداءً بيئياً، بل قطيعة مع تاريخ طويل من التعايش بين الإنسان والطبيعة. «عندما تُجفف الأهوار وتُباد الطيور، فإننا لا نفقد تنوعاً حيوياً فحسب، بل نمحو ذاكرة تاريخية متراكمة تعود إلى حضارات وادي الرافدين الأولى»، مؤكداً أن الأهوار كانت شاهداً حياً على الاستمرارية الحضارية، وأن تدميرها يعني خسارة بعدٍ ثقافي وتاريخي لا يمكن تعويضه.
ويضيف بالقول إن حماية الطيور المهاجرة اليوم هي في جوهرها حماية للتاريخ نفسه، لأن الأهوار لم تكن يوماً هامشاً جغرافياً، بل كانت قلباً نابضاً للحياة، وملاذاً طبيعياً صاغ ملامح المكان والذاكرة العراقية عبر العصور.
«الفلامنكو» في العراق.. من طائر مهاجر إلى ضحية صيد وتجفيف!

نشر في: 24 ديسمبر, 2025: 12:02 ص








