سعد سلوم
في حوارات جمعتني بنخبة من المثقفين السوريين، برزت «حساسية التسميات» ليس كخلاف لفظي عابر، بل كعقبة أولى تختزل عمق التشظي السوري في فضاء لم تُحسم فيه بعد هوية الدولة ولا ملامح عقدها الاجتماعي، حيث تحولت المسميات الجغرافية من توصيفات محايدة إلى «شيفرات سياسية وأمنية» مشحونة تسعى لإعادة تشكيل الواقع وفرضه كأمر واقع.
وبخلاف الجوار التركي أو الإيراني، حيث تفرض الدولة المركزية مسمياتها بقوة السلطة المطلقة، تبرز الحالة السورية كصراع مفتوح على "حق التسمية" بوصفه أداة لإنتاج الشرعية، لدرجة أن مصطلحات مثل "الساحل" أو "المناطق المحررة" لم تعد تشير إلى تضاريس الأرض، بل أصبحت "خنادق اصطفاف" عسكري وسياسي يحدد موقع الناطق بها من الصراع. ويقف مصطلح "روج آفا" في قلب هذا الاشتباك السيادي، فالحساسية تجاهه تتجاوز حدود اللغة لتلامس أزمات قانونية وهوياتية عميقة، فبينما يراه البعض إعلانا لنموذج حكم بديل، تراه دمشق وقوى إقليمية تهديدا لوحدة البلاد وتمهيداً للانفصال، كما يثير المصطلح هواجس المكونات العربية والسريانية والتركمانية من "أحادية الهوية" على حساب التاريخ المشترك، ويتحول أمنيا إلى "عنوان شائك" يربطه الفاعلون الإقليميون بصراعات عابرة للحدود، وهو ما يفسر غياب هذه التسميات عن الوثائق الأممية لصالح لغة أكثر حياداً مثل "شمال شرق سوريا».
إن المعركة هنا ليست على الهوية الثقافية في حد ذاتها، بل هي رفض للتسمية حين تتحول إلى "أداة رمزية" في صراع النفوذ وسجينة لحظة نزاع لم تجد طريقها بعد نحو توافق وطني مستدام، رغم محاولات الخروج من نفق "الأمر الواقع" عبر اتفاق العاشر من مارس بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي 2025. هذا الاتفاق مثّل محاولة لـ "دمج تاريخي بضمانات سيادية" نص على انصهار "قسد" في هيكلية وزارة الدفاع و"الأسايش" في وزارة الداخلية مقابل منح حقوق إدارية وثقافية للمكونات، سعياً لنقل مصطلح "روج آفا" من فضاء التمرد إلى فضاء "الاعتراف بسوريا الموحدة" مع عودة المعابر وحقول النفط إدارياً لسيطرة المركز.
وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في ملفات تقنية مثل دمج القوات، يظل المسار السياسي بين الإدارة الذاتية والحكومة الجديدة يراوح مكانه عند معضلة "شكل الحكم"، فبينما تتمسك "قسد" برؤية لامركزية دستورية تضمن حقوق المكونات في إدارة شؤونها المحلية والمشاركة في القرار السياسي الوطني، تصر دمشق على صيانة وحدة الدولة عبر سلطة مركزية صلبة. هذه اللامركزية المنشودة لا تُطرح هنا كبديل انفصالي أو فيدرالية كاملة، بل كصيغة حكم محلية واسعة، لكنها لا تزال مثار نقاش محتدم حول كيفية تأطيرها دستوريا وقانونيا. ومع إصرار مظلوم عبدي على منع الاتفاق من الفشل، تزيد التهديدات التركية وخطر تنظيم الدولة من تعقيد المشهد، مما يجعل الانتقال من "الورق إلى الميدان" محفوفاً بالعوائق الدموية. وقد كشفت اشتباكات حي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب خلال كانون الأول (ديسمبر) 2025 عن هشاشة هذا المسار، حيث تعكس المواجهة بالأسلحة الثقيلة ضيق ذرع دمشق بما تصفه "بالمماطلة" في تنفيذ الاندماج الكامل، ورسالة حاسمة بأن السيادة لا تقبل القسمة في "المناطق الرمادية».
لا تنفصل هذه الهواجس السورية عن ذاكرة إقليمية مثقلة بالجدل، حيث عاشت النخب العراقية ذات "الارتباك الاصطلاحي" حين كانت تسمية "إقليم كردستان" تصطدم بجدار الدولة المركزية التي أصرت على وصفه بـ "شمال العراق"، ومع ذلك، فإن إسقاط التجربة العراقية على الحالة السورية يكشف عن فروق بنيوية جوهرية رغم انطلاق المصطلحين من جذور قومية متشابهة. يكمن الفارق الجوهري في "الشرعية الدستورية"؛ فبينما استقر مصطلح "كردستان العراق" كتعريف قانوني لمؤسسات وحدود معترف بها دستوريا منذ عام 2005، يظل مصطلح "روج آفا" سجين لحظة "الأمر الواقع" ووليد فراغ السلطة والحرب، لا نتيجة تسوية وطنية شاملة، مما يجعله في نظر دمشق والمحيط الإقليمي مشروعا قلقا يفتقر للغطاء القانوني.
وبينما نضج الإقليم في التجربة العراقية عبر عقود من الانتفاضات والاعتراف الدولي المتدرج منذ عام 1991، برزت "روج آفا" كقفزة مفاجئة ارتبطت بالصراع المسلح أكثر من ارتباطها بمسار سياسي مستدام، وهو تباين يمتد ليصل إلى الحاضنة الشعبية، حيث غدت التسمية صفة إدارية مقبولة عراقيا، بينما تصطدم في الشمال الشرقي السوري باعتراضات ملموسة من المكونات العربية والسريانية التي ترى في المصطلح إقصاء رمزيا يعيد تلوين الجغرافيا المشتركة بلون قومي واحد. وأخيرا، يبرز الاعتراف الوظيفي كفصل حاسم، فإقليم كردستان يمارس دوره كجزء من دولة اتحادية وتمثيل ضمن وحدة البلاد، في حين يُحاط مصطلح "روج آفا" بشبهة الانفصال، مما يدفع المجتمع الدولي للاستعاضة عنه بتعبيرات جغرافية محايدة مثل "شمال شرق سوريا".إن الحساسية تجاه هذا المصطلح ليست عداء للهوية القومية بقدر ما هي انعكاس لغياب الإطار الدستوري والتوافق الوطني، وبناء عليه، يظل المصطلح مرتهنا بمعادلات القوة الميدانية، بانتظار لحظة سياسية تحوله من "عنوان للنزاع" إلى "مفهوم قانوني" مستقر، أو تذيبه في هوية وطنية جامعة.
لا تتوقف هذه "الحرب الاصطلاحية" عند التخوم السورية أو العراقية، بل تمتد لتشمل خارطة إقليمية واسعة، حيث تتحول المسميات الجغرافية في لحظات التأزم من مجرد "وصف للمكان" إلى "تحد صريح للسيادة"، وأسماء تلمس الأعصاب الحساسة للدولة المركزية لتعيد تعريف الهوية الوطنية في مواجهة السلطة القائمة. ولا يبتعد المشهد الإيراني عن هذا الاشتباك اللغوي، إذ تمارس طهران استراتيجية "الالتفاف اللغوي" في تعاملها مع جغرافيتها الكردية، فبينما تُبقي الدولة على مسمى "محافظة كردستان" كإطار إداري ضيق، تعمد إلى تجزئة الهوية القومية عبر توزيع المكون الكردي على محافظات متعددة، مانعةً تحول الاسم من تقسيم إداري خاضع للمركز إلى "كتلة جغرافية سياسية" موحدة. وهنا تبرز الحساسية المفرطة تجاه مسميات مثل "روجهلات" (شرق كردستان)، حيث يتحول نطق الاسم من توصيف محلي إلى "فعل سياسي" في نظر الدولة، وصورة من صور التحدي لسيادتها، وهو ما يدفع الخطاب الرسمي الإيراني للاحتماء بمصطلحات محايدة مثل "غرب البلاد" أو "المناطق الحدودية" بهدف "تأميم الجغرافيا" وصهرها في قالب الدولة القومية، وقطع الطريق على أي سردية عابرة للحدود تتقاطع مع "كردستان العراق" أو "روج آفا" سوريا. وبذلك يظل "الاسم" في السياق الإيراني هو الميدان الذي تتواجه فيه "شرعية الدولة" الساعية للاحتواء مع "شرعية المجتمع" المعتصمة بالذاكرة التاريخية كخندق للمقاومة.
لا تقل الحالة التركية تعقيدا عن جاراتها، فالحساسية تجاه التسميات هناك تمثل صراعاا وجوديا على الرواية التاريخية، يتجاوز منطق النزاع على الحدود ليشمل مساءلة "السردية الجمهورية" القائمة على صهر التعدد القومي في قالب أحادي، إذ لا تُطرح الأسماء البديلة كإعلان انفصالي بالضرورة، بل كمسعى لإعادة إدراج الذاكرة المقموعة في المجال العام، وهو ما تواجهه الدولة كـ "تهديد رمزي" لأن الاعتراف بالاسم يعني ضمنياً الاعتراف بـ "تاريخ بديل" لم يستوعبه مشروع الحداثة التركي. وتتجسد هذه الازدواجية بوضوح في التعاطي مع مصطلح "كردستان"، فبينما تقبله أنقرة رسمياً حين يتعلق الأمر بالعراق، ترفضه بشدة حين يُسقط على جغرافيتها الوطنية، معتبرة إياه مساساً بالوحدة ومغازلة لمشاريع عابرة للحدود مثل "باكور" (شمال كردستان)، في تقاطع مباشر مع نظرتها لمصطلح "روج آفا" السوري، حيث يعيد كلا المصطلحين تقسيم الجغرافيا وفق منظور قومي يصطدم بمركزية الدولة. ويلخص النزاع حول تسمية (ديرسم / تونجلي) جوهر هذا الصراع، فبينما يتمسك السكان باسم "ديرسم" تعبيراً عن هويتهم التاريخية وذكراهم المؤلمة كأكراد علويين، يبرز اسم "تونجلي" (الذي يعني القبضة البرونزية) كعنوان لفرض سيادة الدولة بالحديد والنار منذ العمليات العسكرية في ثلاثينيات القرن الماضي.
وبالمثل، تصر أنقرة على استخدام مسميات إدارية محايدة مثل "جنوب شرق الأناضول" كبديل لمصطلح "كردستان تركيا"، لقطع الطريق على محاولات استعادة الهوية المغيبة. وهكذا، يتضح أن التسمية في تركيا ليست لغة بريئة، بل هي خندق في صراع محتدم على الشرعية، حيث يصبح الاسم هو الميدان الذي تتواجه فيه "شرعية الدولة" بروايتها الرسمية، مع "شرعية المجتمع" بذاكرته وهويته التاريخية العميقة.
بناء على ما تقدم، يبرهن استعراض هذه النماذج الإقليمية المتداخلة على أننا لا نواجه مجرد خلاف لغوي عابر، بل نحن أمام "اشتباك سيادي" بامتياز، ففي هذه البقعة من العالم، كفت الأسماء عن كونها مجرد عناوين بريدية للاستدلال الجغرافي، لتتحول إلى "خنادق رمزية" تعكس صراعا مريراً على هوية الأرض، ومن يملك حق رواية تاريخها وفرض سيادته عليها. تكشف هذه المقارنات أن التسمية تستمد خطورتها من قدرتها الفائقة على "خلق واقع جديد" أو محوه، فبينما نجح نص دستور العراق في تحويل الشعار القومي إلى مفهوم قانوني مستقر، نجد التجربة الإيرانية تلجأ لتجزئة الجغرافيا إداريا لإفراغ الاسم القومي من محتواه السيادي، في حين تظل مسميات أخرى في سوريا وتركيا معلقة في فضاء "الأمر الواقع"، تتقاذفها أمواج النزاعات المسلحة وغياب التوافق الوطني.
إن الدرس المستخلص من هذه "المعارك الاصطلاحية" يؤكد أن استقرار الدول لا يتحقق بفرض المسميات الإدارية القسرية، ولا بإنكار الذاكرة المحلية للجماعات عبر "تأميم الجغرافيا"، بل بابتكار معادلة وطنية تحتضن التنوع دون أن تهدد الوحدة. وفي السياق السوري تحديدا، يمثل "اتفاق مارس" اليوم الخارطة القانونية المتاحة للعبور نحو هذا الاستقرار، رغم ترنحه تحت ضغط التحولات الدولية والتهديدات الإقليمية. وحتى ينضج ذلك العقد الاجتماعي الذي يرى فيه جميع المواطنين السوريين أنفسهم في اسم الدولة الرسمي، ستظل الخارطة "نصاً ملغماً" بالدلالات، وسيبقى "الاسم" هو الفعل السياسي الأقوى في ميدان السلطة والشرعية، والشاهد الأول على مآلات الصراع بين فرض الأمر الواقع وبناء الدولة الجامعة.









