TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ناجح المعموري.. أثر لا ينطفئ بعد الرحيل

ناجح المعموري.. أثر لا ينطفئ بعد الرحيل

نشر في: 28 ديسمبر, 2025: 12:02 ص

أحمد الناجي

فقدت الثقافة العراقية واحداً من أبرز رموزها الإبداعية، وهو الأديب ناجح المعموري الذي توزعت نتاجاته على ميادين ثقافية وفكرية متعددة، القصة والرواية والنقد والميثولوجيا. غادرنا بصمت راحلاً الى بارئه، حيث الرقدة الأخيرة وهو يحتضن عدداً من المشاريع التي لم يسعفه الوقت لتحقيقها. رحل عنا جسداً غير أنه باق بيننا بما خلفه من سيرة ناصعة، وبصمة متميزة تجلت في منجزه الباهر الذي حاز على مكانة متميزة في مشهدية الثقافة العراقية والعربية.
منذ أن اشتدت صدمة فراق شريكة حياته (أم وهب)، أدركنا أنها لحظة فارقة، فقد تكالبت عليه قسوة الوحدة الموحشة، وتفاقم المرض الذي راح يستفحل فيه شيئاً فشيئاً حتى غلبه، فابتعد عن الكتابة، ملاذه الأثير ونافذته الى الحياة، وكان هذا الواقع قاسياً عليه وثقيلاً علينا، إذ بقينا نراقب عياناً علامات الضعف، وشبح الموت المتربص خلف الأبواب، يقترب منه يوماً بعد آخر، الجسد يذوي ولا حيلة في اليد، والغصة في أعماقنا تلتهم الكلمات، ولا مناص في النهاية من الاستسلام لحقيقة الفناء المحتومة.
دائما ما يضعك الموت ذلك الضيف اللحوح في مواجهة خسارات موجعة، ويتركك وحيداً أمام صدى الغياب، مثقلاً بهمّ فراق الأحبة، ومع كل رحيل تنفتح أبواب التأمل في طبيعة الوجود الإنساني القائم على ثنائية الحياة والموت، وغالباً ما يسرح العقل باحثاً في أقوال الشعراء الذين يشاركونك الحزن، ابتغاء تهوين الخطب وتخفيف ما في الأعماق من مواجع. وهنا تستوقفنا قريحة المتنبي التي تفيض في إحدى قصائده بما يعتمل في الصدر تجاه ظاهرة الموت، حين يقول: "والموتُ آتٍ والنفوسُ نفائسٌ/ والمستغرُ بما لديه الأحمقُ"، فهو يعلن بوضوح أن الموت نهاية محتومة لا مفر منها، وأن الاغترار بما نملك ليس إلا ضرباً من الحمق أمام حقيقة الفناء، وكأن المتنبي ينطق بحكمة خالدة مفادها: إن وعي الموت ليس دعوة لليأس، بل دعوة لإدراك قيمة الحياة واستثمار لحظاتها فيما يبقى أثره بعد الرحيل.
تداعت عليّ الذكريات برحيل الصديق ناجح المعموري، وغمرني شعور بالحزن والفقدان، وسرحت أتتبع خطاه، متأملاً سيرته ومحطات حياته الأولى، فقد ولد عام 1944، ونشأ في كنف أسرة تعيش حياتها ببساطة، وتنعم برحابة الريف التي توفرها قناعة المعيشة في قرية (عنانة) التي تربض على كتف شط الحلة في الجهة اليمنى المقابلة لمدينة بابل الأثرية، وتفصلها عن مركز الحلة مسافة تقارب سبعة كيلومترات. وكانت (عنانة) عتبة طفولته البكرية ومرابع شبابه، تلك التي سكنت في وجدانه، ولعبت دوراً متميزاً في تكوين شخصيته، سيما في تشكيل ذاكرته وذائقته الجمالية، ففي رحابها تعددت الحكايات الشعبية المتصلة بالأساطير القادمة من وراء النهر، وتشابكت فيها الخيالات بالمرئيات، حيث راحت مخيلته تمتزج بما تراه عيناه، حتى أخذ الانشداد يكبر في نفسه نحو (بابل) الضفة المُغوية. ولعبت الصدفة دورها في حياة ناجح، حين التحق عام 1949 بمدرسة بابل الابتدائية التي شغلت بناية كانت سابقاً مقراً للبعثة الألمانية للتنقيب في مدينة بابل الأثرية. تقع في قرية (كويرش) على الضفة اليسرى لشط الحلة مقابل قرية (عنانة)، فكانت سبباً رئيساً في تكرار مشاهدات التلميذ الصغير للمعالم الأثرية، التي مهدت وأسست ركائز مكوناته الثقافية، وأضاءت طريقه في قادم الأيام، سواء عن قصد أو دون وعي. وأنهى دراسته الابتدائية، منتقلاً الى المرحلة المتوسطة في العام الدراسي 1957-1958، وتخرج منها في العام الدراسي 1959-1960، لينتقل بعدها الى إعدادية الحلة في الفرع الأدبي. وتجدر الإشارة الى أنه في تلك الفترة انحاز للأفكار اليسارية خلال عهد ثورة 14 تموز، التي شكلت محطة نضوجه كطالب شاب، فشرع في خوض تجربة العمل السياسي، منتمياً الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، باحثاً عن إدراك ذاته وممارسة تأثيره في محيطه. وأكمل دراسته في تلك المرحلة بنجاح، متخرجاً في العام الدراسي 1962-1963، ما أهله للقبول في معهد إعداد المدرسين فرع اللغة الانكليزية ببغداد، إلا أنه لم يكمل دراسته هناك، إذ ترك المعهد بعد ثلاثة أشهر تقريباً، مفضلاً الالتحاق بالدورة التربوية في الحلة للعام الدراسي 1963-1964، والتي كان أمدها سنة دراسية واحدة، فأكملها بنجاح، وصدر أمر تعيينه من مجلس الخدمة معلماً على ملاك التعليم الابتدائي بتاريخ 24 كانون الأول 1964.
انخرط ناجح في عمله متنقلاً بين عدد من المدارس في مدن وقرى مختلفة، أحب مهنة المعلم، وكان مخلصاً في أداء رسالته التربوية النبيلة، غير أنه في أواخر سبعينيات القرن الماضي، اقتلع قسراً من مجال عمله التربوي، في ظل قانون شريعة الغاب، لما جرى تبعيث قطاع التعليم، من غير ذنب سوى أنه أحب العراق على نحو لا يوافق مقاسات السلطة، بل على طريقته الحالمة، متمسكاً بشعار "وطن حر وشعب سعيد"، الذي ظل أميناً له طيلة حياته، وهكذا نقل وظيفياً الى مؤسسة خدمية هي دائرة (ضمان بابل)، لتثقل عليه الأيام بإيقاعات مشحونة بالتوتر، مما دفعه مطلع عام 1988 الى تقديم طلب إحالته على التقاعد قبل بلوغه السن القانوني.
ناجح مثقف نابه من طراز نادر، توطدت علاقته بالكتاب والقراءة، حتى غدت شغفاً متصاعداً مع الأيام، يقرأ بنهم وشراهة، ويختار ما يقرأ بعناية ووعي، ولعل غواية القراءة هي البؤرة المركزية الذي انتظمت حولها عناصر تكونه الثقافي والأدبي، فصقلت لديه ملكة التذوق والإحساس بالجمال، ومكنته من إدراك الألفاظ وفهم المعاني والتقاط البنى الجوهرية وما يجاورها من بُنى فرعية. وناجح حين يقرأ ينصرف بكليته الى ما بين يديه، يستوعب ما يقع تحت عينيه، ويقيم فيه مستغرقاً في تبصرات متأنية، مدركاً ما سيحفظه، وما سيبقى في ذاكرته الطرية والطيعة التي تستجيب لكل ما يشغله ويحتاج اليه، ونادراً ما يقرأ كتاباً دون أن يضع علاماته الخاصة على وريقاته أو يدون ملاحظات في جذاذات.
اتسعت مدارك ناجح، وتضاعفت واتسعت معها قدرته على الفهم والتحليل والتأويل، وكانت الكتابة ثمرة طبيعية لبذرة القراءة، فترسخت مهارته في تطويع الألفاظ، وصارت اللغة بين يديه طيعة كعجينة مختمرة يشكلها كيف يشاء، واكتسب نباهة المران الكتابي القادر على رصف المعاني والأفكار بسردية شيقة، يعرف كيف يقصي الألفاظ الزائدة لئلا تترهل مدوناته أو يضعف بناؤها.
يستحق ناجح المعموري التوقف عنده طويلاً، لا لكونه مبدعاً فحسب، بل لما يمتلكه أيضاً من قابليات إدارية فريدة، فقد سجل حضوراً استثنائياً في قيادة الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق على مدى رئاسته الاتحاد لدورتين (2016-2022)، وقد استطاع هذا المثقف الشجاع، صاحب الرؤى المستقبلية، أن يؤدي مهماته بأعلى درجات الحرص والأمانة، فتمكن بمعاضدة أعضاء كل من المكتب التنفيذي والمكتب المركزي من ترسيخ كيان اتحاد الجواهري العريق على مختلف الأصعدة، سيما في استدامة اقامة الأنشطة الثقافية بصورة متميزة، وجاء ذلك كله، بالتوازي مع تعزيز موارده المالية.
قدم ناجح المعموري منجزاً إبداعياً باهراً، مكنه من أن يتبوأ مكانة مرموقة بين طليعة المثقفين في المشهدين الثقافي العراقي، والعربي، فقد برز أديباً منتجاً يصوغ عوالم جمالية في منحى السرد، كما اجتهد ناقداً مبتكراً يسعى للارتقاء بالذائقة، واستند على منهج النقد الأسطوري في التنقيب عن امتدادات المعنى وتجليات الجمال في مختلف حقول الإبداع الذي تضفيها تضاريس الميثولوجيا، كما سعى الى تشييد مشروع معرفي وثقافي رصين، حينما واصل البحث في أغوار الحضارات القديمة ودراسة الأساطير، ولا يختلف اثنان على فرادة دوره البارز الذي تجلى في مشروعه المعرفي المعني بالموروث الإنساني، وبامتدادات طفولة الحياة، وجذور النشأة ومهاد تكوين الثقافات البدئية عبر الحضارات المتعاقبة، لاسيما في ما قدمه من كشوفات عما هو مسكوت عنه في ثنايا التاريخ الموغل في القدم.
ناجح مبدع غزير الإنتاج وواسع المعرفة، ومن يعرفه يدرك أنه يمتلك عيناً ثاقبة، وذهناً متقداً، ومخيلة لا حدود لها، وذائقة شفيفة، وملكة سردية متدفقة، وكل ذلك يشير الى تراكم عقل شكاك يضج بالأسئلة، ويفضي الى وعي معرفي رفيع، وقد تجاورت هذه الملكات في وجدانه، وترسخت في أعناقه ضمن مكوناته الثقافية، ولا نبالغ أن قلنا أنه يمتلك قدرة شفاهية نادرة، أو أنه واحد من سحرة الكلام.
قطع ناجح أشواط حياته في رحلة القراءة الشاقة والبحث المضني وإنتاج المعنى، عاشقاً للحقيقة ومخلصاً للكلمة، ويبقى أن نقف أمامه بإعجاب وتقدير، مستشعرين فداحة الخسارة برحيله، فقد انطفأ صوت كان يوسع مداركنا ويمنح الثقافة أفقاً أرحب، غير أن أثره سيظل ممتداً، حياً في كتبه ورؤاه وذاكرة كل من عرفه أو نهل من عطائه، رحل الجسد الى قراره الأخير، وبقيت روحه الثقافية شاهدة على مبدع قل نظيره.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

العمود الثامن: ليلة اعدام ساكو

 علي حسين الحمد لله اكتشفنا، ولو متاخراً، أن سبب مشاكل هذه البلاد وغياب الكهرباء والازمة الاقتصادية، والتصحر الذي ضرب ثلاثة أرباع البلاد، وحولها من بلاد السواد إلى بلاد "العجاج"، وارتفاع نسبة البطالة، وهروب...
علي حسين

قناطر: المسكوت عنه في قضية تسليم السلاح

طالب عبد العزيز تسوِّق بعضُ التنظيمات والفصائل المسلحة قضية الرفض بتسليم أسلحتها الى الدولة على أنَّ ذلك قد يعرض أمن البلاد الى الخطر؛ بوجود تهديد داعش، والدولة الإسلامية على الحدود مع سوريا، وأنَّ إسرائيل...
طالب عبد العزيز

ناجح المعموري.. أثر لا ينطفئ بعد الرحيل

أحمد الناجي فقدت الثقافة العراقية واحداً من أبرز رموزها الإبداعية، وهو الأديب ناجح المعموري الذي توزعت نتاجاته على ميادين ثقافية وفكرية متعددة، القصة والرواية والنقد والميثولوجيا. غادرنا بصمت راحلاً الى بارئه، حيث الرقدة الأخيرة...
أحمد الناجي

من روج آفا إلى كردستان: معركة الأسماء في سوريا التعددية

سعد سلوم في حوارات جمعتني بنخبة من المثقفين السوريين، برزت «حساسية التسميات» ليس كخلاف لفظي عابر، بل كعقبة أولى تختزل عمق التشظي السوري في فضاء لم تُحسم فيه بعد هوية الدولة ولا ملامح عقدها...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram